لماذا وصفي؟

لا يختلف كثيرون في الأردن حيال كون رئيس الوزراء الراحل وصفي التل قد أحرج أغلب من جاء بعده من رؤساء الوزارات ومن رجالات النخبة السياسية في المملكة، نظرا لما كان يملكه الرجل من شخصية وازنة ورؤية عميقة بشأن كل الملفات والتحديات التي تحيط ببلاده.اضافة اعلان
لم يضطر وصفي إلى الدفاع عن نفسه أمام البرلمان على نحو ما فعل رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، أول من أمس، بالقول: "أنا أتوجع مثلكم وابن ناس منكم ومن أفقر أي واحد منكم. وما أتيت كي أطعم الأغنياء من الفقراء، وأنا أتيت لكي أقوم بإصلاح..". كان فعله يسبق قوله، وتمكن في وقت قصير من عمره أن يحقق الكثير لمجتمعه وللشعب الذي منحه ثقة لم يقترب إلى مستواها أي من الساسة "الكبار" قبله وبعده.
خلال 18 شهرا من عمر حكومته في العام 1962، تمكن وصفي التل من تأسيس البنك المركزي الأردني، فيما كانت العملة الأردنية تطبع في بنك بريطاني هو البنك العثماني. وأمسى لدينا صرح علمي كبير اسمه الجامعة الأردنية، وميناء يربطنا تجاريا بالعالم؛ إذ تم البدء بميناء العقبة، وغير ذلك من الإنجازات التي انطوت تحت خطط خمسية كرست مفاهيم التنمية في أذهان الأردنيين آنذاك. وهي الرؤية التي كان يفكر بها وصفي ويتبناها، إذ كان يعي جيدا معنى الاستقلال الاقتصادي ويعرف مخاطر التبعية.
كان بسيطا وصاحب فكر ورؤية. لذلك استوطن في قلوب الأردنيين لأجيال متباعدة. وإلا، فما الذي يدفع شابا جامعيا اليوم إلى التغني بسيرة وصفي بعد 44 عاما على استشهاده في القاهرة؟ كان رئيسا للوزراء بكامل ولايته العامة؛ فقوته لم تكن في الاقتصاد والتنمية وحسب، وإنما امتدت الى السياسة بمعناها العميق. وفور تسلمه رئاسة الحكومة، أمر بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وإحراق جميع الملفات الأمنية الشخصية لهؤلاء. وهو من أبرز دعاة الوحدة العربية في ذاك الزمان الصعب. وقد انتقد جمال عبدالناصر في العلن ضمن رؤية أيديولوجية لا شخصية، واعتبر أن بلاد الشام هي مركز الثقل العربي وليس مصر. كما لم يتوان عن التعبير عن موقفه السياسي بكل جرأة، إذ كان ضد دخول حرب 1967، نظرا لأن عوامل التوقيت والجاهزية والعمل المشترك وقتها كانت كلها في غير مصلحتنا.
لو كانت النخبة التي جاءت بعد وصفي مثله في الرؤية والمصداقية والقوة والنزاهة، لما ضعفت مؤسسات الدولة على النحو التي وصلت إليه الآن، ولما اتسعت الهوة وانعدمت الثقة بين السياسيين -في الحكومة والبرلمان معا- وبين أفراد الشعب، حتى يضطر المسؤول إلى القول من على منابر الخطابة "أنا أتوجع مثلكم"!