لماذا يحتج ‘‘مستحقو الدعم‘‘ على سياسة ‘‘توجيه الدعم لمستحقيه‘‘؟

أحمد أبو خليل

عمان - قد نكون أمام أحد أشكال "الفكاهة" المالية أو الاقتصادية؛ ذلك أن فكرة "توجيه الدعم لمستحقيه"، يفترض أن تُلاقي الترحيب من قبل هؤلاء "المستحقين" وأن تُدخِل السعادة إلى قلوبهم بعد أن تدخل المال إلى جيوبهم!اضافة اعلان
في الواقع، إن المسؤولين كل مرة، يبذلون جهدهم ويستحثون كامل قدرتهم على إبداء الحنان والحرص على مستحقي الدعم، ويشرحون بالأرقام والنسب والجداول، بل إنهم، ضمنيا أو مباشرة، يحرّضون هؤلاء المستحقين على غير المستحقين الذين يحصلون بغير وجه حق، على ما هو مخصص أصلاً لغيرهم.
لكن ما يحصل في كل مرة، أن الفقراء؛ أي مستحقي الدعم بالذات، هم الذين يحتجون على توجيه الدعم لهم فقط، وهو ما يعني أنهم يحرصون على أن ينال شركاؤهم في الوطن من الأثرياء نصيبهم من الدعم، مع أنهم لا يستحقونه!
وفي المقابل، فإن الأثرياء هم الذين يرحبون ويشجعون قرارات حرمانهم من الدعم! وتجدهم يصرخون: نعم إننا لا نستحق الدعم الذي ينبغي أن يوجه حصراً لشركائنا الفقراء!
يا لها من حالة نكران ذات اقتصادي يعيشها الجميع! يا له من رد يُخرس كل من يتحدث عن الصراع الطبقي بين أصحاب المصالح المتناقضة!... يكفي فكاهة.. أليس كذلك؟
أرقام ونسب
تزعُم فكرة "توجيه الدعم لمستحقيه" أنها تشكل إسهاماً في سياسات عدالة التوزيع، ويتوفر لدى الحكومات من الأرقام والنسب والجداول ما هو مطلوب وأكثر لتأييد هذا الزعم. إنهم يقولون إن سياسة الدعم الحالية موجهة للأغنياء أكثر من الفقراء، بدليل أن 75 % أو 80 % وفي إحدى المرات 81 % من مبالغ الدعم يستفيد منها الأثرياء بينما الفقراء ينالون ما تبقى. إن الأرقام التي يقدمونها تقول إن الأثرياء يستهلكون من السلع المدعومة أكثر بأضعاف عدة مما يستهلكه الفقراء رغم كثرة عدد هؤلاء الأخيرين، وهناك أحياناً ادعاء مرافق وموازٍ يقول إن مبالغ الدعم في الموازنة ستستمر ولكنها ستكون موجهة لمستحقيها.
تنتمي هذه الأفكار إلى فكرة كبرى رافقت كل برامج "التصحيح" في بلدنا والبلدان المشابهة، تحمل الصيغة الآتية: إن هناك آثارا جانبية لعملية التصحيح يتضرر منها الفقراء مؤقتاً، ولهذا ينبغي اتخاذ إجراءات لتخفيف الضرر إلى أن يستقر النمو، ويستعيد الجميع قدرتهم على الاستفادة من النهج الاقتصادي الجديد، الذي يكون قد تخلص من "التشوهات" و"الانحرافات". وتسمى هذه الإجراءات "شبكة حماية" تتلقف من يسقط بسبب السياسات، وتمكّنه من التسلق إلى أعلى مجدداً.
في كل مرة يُجهِد المسؤولون أنفسهم بالبحث عن طريقة لتنفيذ ذلك، وقد طرحت عبر السنين أفكار مثل: "بطاقة ذكية" أو توزيع مبالغ نقدية، وقبلها توزيع كوبونات الأرز والسكر التي تلاشت تماماً بعد رفع الدعم ورفع الكوبونات أيضاً. كما تم تجريب أسلوب تقديم مبالغ مالية مباشرة كبديل للدعم في مجال المحروقات، ثم توقف الصرف، وقبل ذلك وبعده أيضاً قامت حكومات سابقة بإجراءات من النوع نفسه فيما يتعلق بالأعلاف بالنسبة لمربي الماشية.
أفكار "لا تنموية"
إن وجهة النظر هذه، حتى لو أخذناها بنوايا حسنة، تدل على قصر نظر تنموي. تعالوا نأخذ حالة واحدة، وهي على سبيل المثال دعم الأعلاف:
إن منطق الحكومات المتصل بقضية دعم الأعلاف بسيط للغاية، ولكنه غير تنموي إطلاقاً. فهي تنظر الى قطاع الماشية بصفته مصدراً للحوم، وتستنتج أنه ما دمنا نستطيع أن نستورد الخراف حية أو مذبوحة، طازجة أو مجمدة، من البلد الذي نريد، وبسعر أقل، فإن هذا يعني أن الدّعم ليس أكثر من خسارة صافية للمالية العامة.
الحكومات تعرف أن هناك متضررين في أوساط مربي الماشية، ولكنها تجادل وفق منطق ساذج وبسيط أيضاً كالآتي: إن قسماً من هؤلاء الملاكين ليسوا فقراء؛ حيث إن مَن يملك 200 رأس من الأغنام مثلاً يحوز رأسمالاً مقداره 50000 دينار بمعدل أسعار السوق في السنوات الأخيرة. أما أصحاب الملكيات الصغيرة الذين سيضطرون لبيعها فقد وفّرت الحكومة لهم ولأبنائهم برامج ومؤسسات للتدريب على مهن وحرف مختلفة جديدة، وحتى من لا يتمكن من هؤلاء من العمل في صنعة أخرى، فإن أبواب صندوق المعونة الوطنية مفتوحة!
استمعت قبل سنوات إلى جدال بين أحد المسؤولين وبين مجموعة من مربي المواشي كانوا يحتجون على رفع الدعم. كان موقف مربي الماشية كالآتي: أنتم الدولة نفسها، والمال الذي ستعطوننا إياه كمعونة وطنية، لماذا لا تعطوننا إياه كدعم للأعلاف؟ لقد أضاف بعضهم بوضوح، أن حرمانهم من مصدر رزقهم وميدان عملهم هذا الذي ورثوه جيلاً بعد جيل، سيدفع بهم الى مصائر شتى سيئة في مجملها، منها ما له تأثير أمني سلبي، لقد صاح أحدهم ذات يوم: إننا في مناطقنا نمثل قوة أمن غير مدفوعة الراتب تعمل بالمجان.
إن موقف مربي الماشية ينطوي على منطق تنموي أكثر حصافة من موقف السلطات الرسمية، إن الأخيرة في أحسن الأحوال تنظر الى الماشية كمصدر دخل بالنسبة للعاملين فيها، بينما هي (أي الماشية) في الواقع مسألة لها أبعاد أشمل، إن هذه الماشية تمثل عنصراً في نمط معيشي له جذور ممتدة عميقاً، إن الأمر يتعلق بمجمل حياة عشرات الألوف من الناس، كما أن مالك القطيع ومهما بلغت القيمة السوقية لقطيعه، فهو يديره باعتباره رأسمال أسريا، وبالفعل فإن كل أفراد الأسرة يعملون في رعاية القطيع وفق تقسيم عمل متوارث وما يزال فعالاً الى درجة كبيرة في بعض الأوساط.
اسألوا السياسات الكلية
تعالوا نتجاوز هذا النقاش ونصل الى السؤال الجوهري المتعلق بالسياسات الاقتصادية الكلية: هل تخدم هذه السياسات المتبعة الطبقات الفقيرة والمتوسطة أم العكس؟ هل تسهم في مكافحة الفقر أم في المزيد من الإفقار؟ تعالوا نتأمل مجمل نهج العقود الثلاثة الأخيرة؛ أي منذ إقرار سياسات التصحيح، إن النتيجة صارخة الوضوح عندنا وعند غيرنا وبحسب الإحصاءات والأرقام الرسمية، وهي أن الأثرياء زاد ثراؤهم والفقراء زاد فقرهم، لقد أصبحت هذه النتيجة من بديهيات النقاش. وهناك دراسات رسمية أو اعتمدت من قبل جهات رسمية (المجلس الاقتصادي الاجتماعي ومركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية)، تشرح اتجاهات توزيع الثروة، التي قادت الى استقطاب بين فقر شديد وثراء شديد، وإلى اتساع قاعدة الهرم الاجتماعي حيث يتواجد الفقراء.
تسعى الحكومات الى الكلام عن بدائل وعن برامج وشبكات حماية للمتضررين مما تسميه "الآثار الجانبية"، بيما في الواقع لا تعد الأضرار التي تلحق بالفقراء آثاراً جانبية، إنها جوهر لتلك السياسات وجزء من الخطة ذاتها لا واحدة من نتائجها غير المرغوبة، إنها جزء من المحتوى الاقتصادي السياسي للخطة.
لقد أصبحت الإجراءات المتكررة التي تتخذ من فكرة "الدعم لمستحقيه" عنواناً لها، مثار تهكم وسخرية عند الناس، ومن المثير أن أي حكومة لم تدرس النتائج الفعلية لأي من الأساليب والأفكار التي طبقت ومدى تحقيقها للهدف المعلن.
لا يجوز لصاحب القرار الاقتصادي الكلي أن يتعامل مع مهماته بالقطعة؛ أي لا تكتفي بالنظر الى كل رقم على حدة، وعليه لا يجوز التعامل مع المال الذي يستهدف قضايا اجتماعية كبرى على أنه مجرد رقم يمكن استبداله أو تغيير موقعه على الأوراق والجداول، لأن قضايا معيشة الناس لا تعالج على الورق.