لنبدأ بالتعاون الاقتصادي العربي

ثمة تحديات كبيرة ماثلة اليوم أمام العالم العربي. فالتحركات الشعبية التي أشعلتها عوامل اقتصادية واجتماعية سادت طويلا، ستُنتج بدورها بيئة اجتماعية واقتصادية جديدة. لكن، بقدر ما كانت تلك العوامل واضحة المعالم ومحل إجماع كثيرين، بقدر ما تبدو البيئة الجديدة ضبابية ومليئة بالتحديات. مع ذلك، فإن الآفاق، برأيي، ما تزال إيجابية، إلا أنها لن تتحقق من تلقاء ذاتها.اضافة اعلان
خلال العقدين الماضيين، انضم العديد من الدول العربية إلى مسيرة الإصلاح؛ فوُضعت سياسات هادفة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتحرير التبادلات التجارية، وتفعيل الخصخصة، وغيرها. لكن هذه السياسات لم تحقق غاياتها، بل جاءت بمعظمها غير فاعلة، وأحيانا لخدمة فئة من المجتمع على حساب الشريحة الكبرى. وتبدو المفارقة في بلوغ نسب البطالة خلال فترة "الإصلاح" مستويات قياسية، لاسيما بين شريحة الشباب التي تشكل أكثر من نصف المجتمعات العربية، ولتصنف المنطقة، بالمحصلة، باعتبارها الأسوأ عالميا على صعيد البطالة بين الشباب. أما الأسوأ، فهو اتساع الفوارق الاجتماعية، حد ابتلاع فئات واسعة من المجتمع.
إذن، ليس من الصعب تحديد العوامل التي قادت إلى التغيرات الأخيرة في العالم العربي. لكن نجاح هذه التغيرات في تحقيق تطلعات الشعوب، مرهون بنجاح الاقتصادات العربية في تجاوز مرحلة التحول التي تمر بها حاليا، نحو اقتصادات منتجة ذات نمو مستدام. وهو ما لا يقوم على نبذ الإصلاحات، وإنما على تصحيح مسارها.  إن التحدي الذي يجمع اليوم بين الدول العربية كافة، هو تحفيز النمو الاقتصادي، وتوفير فرص عمل منتجة على نحو يجاري النمو المتساريع في القوى العاملة الشابة. وقد فشلت معظم سياسات التوظيف السابقة التي تركزت، بشكل أساسي، على القطاع العام لحل هذه المعضلة.
هذا يقودنا إلى ما هو أكثر إلحاحا: الفوارق الاجتماعية الشاسعة بين شريحة "عليا" صغيرة الحجم عدديا، في مقابل أخرى تشكل الأكثرية المطلقة. وردم الهوة بين مختلف الشرائح الاجتماعية لا يشكل إطلاقا دعوة إلى لجم القطاع الخاص وتقليص دوره، بل العكس تماما؛ أي دعم هذا القطاع وتنشيط دوره، كونه الوحيد القادر على خلق فرص عمل جديدة، كما تحقيق نمو اقتصادي مستدام. ولا يمكن ترجمة هذه الضرورات على أرض الواقع من دون دعم فاعل للاقتصادات العربية من قبل المجتمع الدولي، سواء بالموارد المالية أو أطر العمل والممارسات الدولية، والخبرات المطلوبة لتطبيق هكذا إصلاحات. ولا أقصد بالمجتمع الدولي الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والمؤسسات الدولية فقط، وإنما أيضا الدول العربية القادرة. والحديث عن دعم المجتمع الدولي يفتح الباب واسعا على مشروع أخذ -وما يزال- حيزا من النقاش، أكبر بكثير مما تحقق منه فعلاً، وهو مشروع التكامل الاقتصادي بين الدول العربية. وأقترح البدء بالتعاون الاقتصادي قبل القفز نحو "التكامل". وليكن تعاوناً مبنيا على إطلاق مشاريع تنموية مشتركة، من شأنها تحريك الاستثمارات العربية البينية، وتعزيز النمو الاقتصادي، والأهم توفير فرص عمل حقيقية ومنتجة. وواقع أنه لا تنقصنا الأموال المطلوبة لتمويل هكذا مشاريع، يجعل من الأخيرة فرصا ضائعة، لاسيما في هذا الوقت تحديداً؛ إذ يرزح العالم تحت وطأة الأزمات المتعاقبة.
صحيح أن الدول العربية قامت، سابقاً، بخطوات تقدمية تمثلت في إنشاء صناديق لتمويل المشاريع التنموية (مشتركة أو على نحو فردي)، إلا أن الحاجة اليوم هي لتفعيل هذه الصناديق على نطاق إقليمي، وزيادة مخصصاتها. لا يكفي تحديد العوامل التي قادت إلى التغيرات في العالم العربي، بل علينا مواجهة ما أفرزته هذه التغيرات من تحديات، وأن نساهم في خلق اقتصادات منتجة قادرة على توظيف أبنائها؛ وهذا هو الوقت لذلك. فقد بات التعاون الاقتصادي العربي -ولن نقول التكامل- ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، ويشكل المدخل إلى أي "خطة مارشال" عربية ننادي بها.

comp.news@