لو كانت فلسطين حُرة..!

عندما تنغلق الآفاق على الفلسطيني، ربما يفكر: لو كان التاريخ قد اتخذ منعرجاً مختلفاً وتحرر بلدي من الاستعمار البريطاني مثل بقية الدول، أين كانت دروبي لتصل بي الآن؟ ولا تخفى بالطبع عبثية هذا السؤال المطلقة، ولكنه قد يتيح هروباً مؤقتاً من منطقة الواقع المنغلق إلى منطقة الخيال الأكثر رحابة. وربما تكون هذه الإجازة سبباً لإنعاش رغبة الفلسطيني في الحياة، في مقابل اليأس الذي يصنعه الاضطرار إلى مواجهة الواقع الصعب إلى حد خوض الشباب في فلسطين مواجهات غير متكافئة وقاتلة مع جنود الاحتلال ومستوطنيه.اضافة اعلان
الذين ما يزالون على قيد الحياة من الفلسطينيين الذين أخرجتهم النكبة والنكسة، يستطيعون أن يحددوا إلى حد ما خط الانكسار الذي غيَّر أقدارهم بعد ضياع البلد. أما أبناء الفلسطينيين الذين ولدوا في المنفى، فيتخيلون الوطن كله، من الفاء إلى النون، ويجمّعون صوره وعواطفه من روايات الآباء وكتب التاريخ والأحداث. وقد تحددت أقدار هؤلاء قبل أن يولدوا، وذهبت في اتجاهات ليس من بينها الطريق إلى الوطن.
في حديث عن احتمالات فلسطين -لو كانت حرة- اقترح واحد ساخط حدَّ العجز عن التمتع بالتمني، أن فلسطين ربما كانت ستفعل مثلما فعل الآخرون. كانت، حسب توقعه، ستعاني تسلط الخارجيين على تقدمها مثلما فعلوا بمصر مثلاً. وربما كانت لتعيش الآن ثورة الفقراء على المستبد المحلي أيضاً من أجل الخبز والكرامة والحرية.
واقترح آخَر أن كون فلسطين محتلة لم يجنب الفلسطينيين تجبر الخارجيين وتسلط الداخليين. وإذا كانت الدول الشقيقة تعيش أحياناً حرباً أهلية بسبب تضارب المصالح، فإن الفلسطينيين يخوضون الآن صراعات مماثلة وهم تحت الاحتلال أو منفيّون. لكن كل الاحتمالات ترجح أن يكون حال الفلسطيني الحرّ أفضل في كل الأحوال.
تصوَّر واحد ثالث أن فلسطين، بحساب ظروفها في بدايات القرن العشرين قبل الاحتلال، كانت مؤهلة لأن تكون واحدة من أكثر دول المنطقة تحضراً وتقدماً. وذكر ثروتها من التاريخ والموارد ونوعية الإنسان في تلك الحقبة، رغم أنها كانت تحت الاحتلال التركي. وبالقياس النسبي على تقدم الآخرين بداية من تلك النقطة، فإن المفروض أن تكون فلسطين الحرة قد قطعت الآن شوطاً كبيراً متقدماً على المعظم، برغم التناقضات.
قال واحد آخر إن الإنجاز الذي حققه الفلسطينيون في العلم والإبداع وأي مجال تأثر كثيراً بواقع النكبة والنكسة. وقال إن مقاومة الفلسطينيين ورغبتهم في الحياة جعلتهم ينتفضون على الواقع الصعب بمحاولة اجتراح سبل العيش من كل مستوى، من التعليم إلى التجارة إلى مقاومة الطمس والإلغاء والإبقاء على حيوية الهوية. لكنه تساءل عمّا إذا كان الفلسطينيون الأحرار في فلسطين حرة كانوا سيسلكون طريقاً مختلفاً؟
قال اليائس، صاحب فكرة الاستبداد الداخلي والهجوم الخارجي، إن الحديث كله لا لزوم له، وكذلك أي حراك في ذكرى النكبة أو النكسة، لأن كل ذلك لا يقدم ولا يؤخر. لكن واحداً من الحاضرين سأله عما إذا كان يستطيع أن ينسى أنه فلسطيني، حتى لو أراد ذلك حقاً؟ سأله عن شيء بسيط ومعقد في آن معاً: هل لو كنتَ في فلسطين، ستقضي نصف عمرك في الشقاء لكي تجمع ثمن بضعة أمتار يمكنك أن تقول عنها: هذه الأرض لي، أو هذا البيت لي، لتكتشف دائماً أنها أرض أو بيت مقطوعان بلا صلة ولا شرايين؟
في العمق، لا يبدو تأمل "لو كانت فلسطين حرة" بالنسبة للفلسطيني ضرباً من العبث أو "لو" التي من عمل الشيطان. إن فلسطين المتخيلة بالنسبة للمنفي، والحقيقية بالنسبة للصامد فيها تحت الاحتلال، هي أساس في التكوين الوجودي باعتبارها هوية في عالَم قائم على الهويات. وتصوُّر فلسطين الحرة، هو الذي يدفع في الأساس فكرة النضال والكدح والمقاومة من أجل أن تصبح فلسطين حُرة.
والآن، بعد 68 عاماً على سرقة فلسطين، وعند أي رقم آخر، لا يستطيع أي فلسطيني تكلف ترف التوقف كثيراً عند تصور "فلسطين حرة سيئة"، بسبب تناقض العبارة الجوهري، باعتبار أن الحرية لا يمكن أن تكون سيئة مقارنة بأي بديل. وسوف يريد الفلسطيني -اليائس والمتفائل- أن يقبل بفلسطين الحرة، بكل احتمالاتها، لأنه من دونه سيظل منبتاً وبلا جذور.