ليس كل ما يعرف يقال

في ثورة الإعلام المجتمعي والإلكتروني؛ الذي اجتاحنا من دون مقدمات، ودون أرضية ثقافية اجتماعية تستطيع التكيف معه، لمواكبة التحول المعرفي الجديد، على مستوى المعلومات التي ساهمت في تغيير القيم والثقافات بسرعة منقطعة النظير، أصبح من الصعب مواجهة الأخطار التي يحملها هذا التحول في القيم، والثقافات، وفي شكل المعلومات التي يصل إليها الناس نتيجة لهذا المتغير الجديد، بحيث لم تعد المعلومات حكرا على فئة محددة بل أصبحت مُلكا للجميع ومتاحة لكل الأفراد والأعمار والطبقات، وهنا الخطورة بحيث لا يستطيع أحد أن يتحقق من دقة ما ينشر ويتناقله الناس، وما الهدف من نشره، وما هي تبعات نشره وتعرّف الناس عليه وصحة المعلومات المنقولة من خلاله.اضافة اعلان
شيخ المؤرخين الأردنيين الدكتور عبدالكريم الغرايبة أدام الله عليه الصحة، يصر على مقولة "أن ليس كل ما يعرف ينشر أو يقال"، وهو قدم بذلك درسا عمليا عندما كان طالبا للدكتوراه في أواخر اربعينيات القرن الماضي، عندما كان يدرس الحركة الوطنية السورية في مقاومتها للمحتل الفرنسي، وبعد أن جمع من الوثائق ما يسمح له بكتابة أطروحته الجامعية في لندن، قام بحفظ الوثائق في صندوق خاص ولم يفرج عنها لغاية هذه اللحظة، لاعتقاده أن المعلومات التي وصل إليها في الوثائق سوف تغير وجهات نظر قطاع واسع من المثقفين والناس العاديين الذين تشكلت قناعات لديهم عن أشخاص وحركات وثورات، تؤكد المعلومات التي وصل إليها عكس ما يعتقده الناس.
لذلك حفظ هذه الوثائق والمعلومات في صندوق خاص ولم ينشرها حفاظاً على المقولة التي يتبناها بأن ليس كل ما يعرف ينشر، وليس كل ما يعرف يقال، لكن يبدو أن الحالة التي نعيشها ويعيشها العالم العربي، أصبح العنوان الأساسي فيها نشر ما لا يعرف ، وتقديم كثير من الأمنيات على أنها حقائق يتداولها الناس، وهذا التداول للمعلومات التي سواء كانت صحيحة أم خاطئة، يؤدي إلى نتائج سلبية على حركة الناس والسياسية والاقتصاد.
وهذه الحالة التي أصبح الجميع فيها صانعين للمعلومة ومروجين لها، تؤدي إلى تفكيك المجتمعات على نحو منقطع النظير. والحالة العربية في صورة ربيعها تؤكد أننا قد نكون في  "اختبارية" جديدة ومحكمة الصنع لمن يقف وراء منظومة الإعلام العالمي، الذي تتحكم بأدواته كبرى الدول المُستعمرة والتي تستفيد من حالة الانقسام، والتشويه الذي أصاب الأمة، ونمو الحركات والنزعات التفكيكية وعودة إنتاج حرب المذاهب والطوائف من جديد فيما يسمى الربيع العربي.
تلك الحالة التي عزز من وجودها حجم ما نشر من معلومات أدت إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ من جديد، بما يخدم مشاريع القوى المسيطرة على المنطقة. وطالما أنه لم يعد هنالك شيء يمكن إخفاؤه، فكل شيء ممكن؛ وبالتالي انتهت الخصوصيات وتفككت المجتمعات والدول والأفراد.