ليس للفقر والبطالة علاقة بالتطرف


نعم.. ليس للفقر والبطالة علاقة بالتطرف. ولكن معظم الكتاب والمعلقين والمحررين... لا يقرؤون غير ما يكتبون، ومن ثم فهم بسرعة يلجأون إلى نسبة التطرف الفكري والسياسي إلى الفقر والبطالة، تحذيراً للحكومات من التداعيات الداعشية إن لم يتم القضاء عليهما. اضافة اعلان
كأنهم بهذا التفسير والحل اطلعوا على وضع جميع أعضاء تنظيم "داعش" و"القاعدة"، واكتشفوا أنهم مجموعة من الفقراء والعاطلين، مع أن أوضاع كثير منهم كانت جيدة، أو كانوا يعملون قبل الالتحاق بمنظمات الإرهاب، ولكنهم تخلوا عنها استجابة لنداء ما: نداء الفكرة، أو العقيدة، أو "الجهاد"، وتداعياتها في الدنيا والآخرة.
لو كان للفقر أو البطالة علاقة قوية أو حتمية بالتطرف لانتشر التطرف أو الإرهاب في كل بلدان العالم، لأنه ما من بلد يخلو تماماً منهما، ولكان تاريخ التطرف والإرهاب هو صدى لتاريخ الفقر والبطالة.
وكقاعدة - لها استثناءات - يؤدي الفقر (المزمن) وتؤدي البطالة (الدائمة) إلى شيوع الجريمة. وفي كل مجتمع نوعان، أو ثلاثة أنواع أحياناً من الجرائم: الجريمة العابرة الناجمة عن الفقر الشديد أو البطالة الطويلة اللذين قد ينتهيان وتتحسن الحالة أو العمل. والجريمة المحترفة التي يعمل أصحابها في الجريمة كما يعمل التاجر في متجره، والصانع في مصنعه؛ والجريمة المنظمة، وتنشأ عندما يتحالف المجرمون في منظمات جرمية نوعية، مما يوجب على الدولة إحباطها وتفكيكها في مهدها. والأخيرتان نوعان من الجريمة لا علاقة لهما تذكر بالفقر أو البطالة، لإنهما يمارسان - كما ذكرنا - كنوع من  "البزنس"، ولكن في الشقاوة والجريمة.
وبالنسبة للأردن يوجد فقر – أو جيوب فقر- ولكن لا توجد ظاهرة فقر كما أدّعي، وإلا ما استطعنا تفسير تعاطي التدخين، وامتلاك الهاتف الخلوي، والسياحة في الخارج، وإنفاق ألف مليون دولار على كل منها سنوياً، وامتلاك الأساسيات التكنولوجية كالثلاجة، والغسالة، والطباخ... وربما سيارة عند كل أسرة، وإنفاق مئات الملايين على المستوردات من السلع الاستهلاكية التي تعج بها الأسواق والمولات والدكاكين... لعل الذين تضايقوا بالتضخم وارتفاع الأسعار (وأسعار البيض...) ورفع الضرائب وتوسيعها قادرون بالترشيد على استيعاب آثارها السلبية. والترشيد يعني إنفاق المبلغ نفسه الذي كان ينفقه المواطن في الوساع في وقت الضيق، فإذا كنت تشتري لحماً بخمسين ديناراً في الشهر قبل غلاء اللحوم تظل تنفقه في شرائها بعده. وبدلاً من شراء ثلاثين بيضة تشتري عشرين بالمبلغ نفسه، وكذلك افعل بالنسبة للسيارة، وإلا فقاطع السلعة إذا كنت تعرف أنها احتكار أو استغلال، وليست نتيجة للعرض والطلب، وهكذا. نعم قد تنقص الكمية ولكن نقصانها لا يؤثر على مجمل الصحة بل قد يكون لها أفضل، وتذكر هذا القول: لستُ غنياً لِكَثرةِ مَا أملكُ، بلْ لِقلةِ ما أطلبُ.
إن الاحتجاج الشديد على الغلاء في بلد معظم سلعه مستوردة، لا يحل المشكلة، لأن منتجي تلك السلع لا يهمهم هذا الاحتجاج ولن ينحنوا له، فشعارهم: "اللي معوش ما يلزموش". كما أن الأردن مدين لشوشته وعليه دفع فوائد وأقساط سنوية عالية للدائنين الذين أزدهر الأردن عمرانياً وبنية تحتية بأموالهم.
والغريب العجيب في سلوك المواطنين أنه عندما تهبط أسعار المنتجات الوطنية إلى الحضيض لا ينبري أحد للأخذ بيد المزارعين والمنتجين والمطالبة بدعمهم وإنقاذهم.
إن الاستمرار في نسبة الدين إلى الفساد ووجوب إجبار الفاسدين على تحمل أعباء الدين لا يحل المشكلة، حتى لو جعلنا الداعين إلى ذلك مسؤولين لمتابعته، فقد طار الفاسدون "بأرزاقهم" واختفوا، ولم يبق سوى بعض الأفراد الخاضعين للتحقيق أو للمحاكمة، أو المتحرى عنهم، أو المطلوب جلبهم للمحاكمة.
وعليه يجب علينا أن نضع أنفسنا في موضع الحكومة سواء كنا نحبها أو نكرهها. إن الدولة مَدينة إلى شوشتها، وإن المانحين اختفوا، والمساعدين تبخروا، والمقرضين توقفوا، والمنطقة المحيطة بنا خطرة جداً علينا، فماذا نحن فاعلون؟ لا يكون الفعل أو الرد إلا بتماسك المجتمع: اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، وبحيث يعمل الجميع بإخلاص لاجتياز المرحلة التي قد تطول أو تقصر، وإلا عمت الفوضى أو كان الخراب هما البديل، فعندئذ تتحول الحياة إلى جحيم كما في الموصل، والرقة، وسورية، وليبيا، واليمن... حيث يتمنى كل واحد هناك لو ضحى بكل ما يملك ودفع أعلى الضرائب والرسوم والأسعار، ولا آلت الأمور إلى الوضع الذي هو عليه الآن: "كله ولا داعش".
لا تعني أقوالي هذه تبرئة الحكومات من المسؤولية. كان عليها ولا يزال أن تجد حلولاً معقولة ومقبولة وقابلة للحياة والعطاء، وأن تعمل بشفافية مطلقة، ومن ذلك وصول معونات صندوق المعونة الوطنية إلى مستحقيها، أي إلى أفقر الناس، فموازنة هذا الصندوق تسعون مليون دينار كافية لحل المشكلة، وموازنة صندوق التنمية والتشغيل كافية لدعم كل مبتكر أو منتج ملتزم لا يُحَول القرض إلى استهلاك سريع. كما يجب إعادة النظر برواتب وعلاوات كثير من المسؤولين (كما دعا جلالة الملك لذلك) الذين استحوذوا عليها في ليلة "ما فيها قمر"، كما يجب إنقاذ الزراعة ودعم الصناعة وجلب الاستثمار بمناخ آمن وقضاء عادل.
لقد نشأت المشكلة أصلاً، أي مشكلة البلدان النامية مثل الأردن والعراق ومصر وتونس وليبيا... من نفاق الأنظمة الحاكمة الريعية أو الرعوية الأبوية لشعوبها بعد الاستقلال حين غذّت ثقافة الوظيفة العامة وأعلت من شأنها، وجعلت خريجي الجامعات ينتظرون ولا يبحثون عن عمل أو يقبلونه وإن جاعوا إلى أن تأتي الوظيفة منقادة إليهم أي أنها الملجأ الأخير لغير الكفء كما يقول أحد المفكرين، ومن فتح باب الاستيراد والاستهلاك قبل أو دون فتح باب الإنتاج، فصارت تعيش وتستهلك بالدين. لقد حان الوقت لإنهاء الدور الريعي، أو الرعوي الأبوي للدولة.
والآن وبعد ما سيطرت نزعة الاستهلاك والأسواق والمولات... تحاول الدول المدينة استدراك الإنتاج ولكن دون جدوى، لأن سرعة الاستهلاك أكبر بكثير من سرعة الإنتاج، مما يجعل الوضع العام صعباً ومهدداً للسلامة العامة والخاصة ما لم تتخذ إجراءات حكومية وشعبية جريئة لعكس المعادلة، وإلا انطبق عليها القول: بعد أن تعود كثرة الأكل جاع.