ليس هناك ثورات "على المقاس"

نكاد نطلب شيئاً مستحيلاً حين نتمنى على الحراكات والثورات ألا تشبهنا، وحين نرجو منها ألا تكون صورة عنّا وعن أفكارنا ووعينا. وننسى في غمرة تمنياتنا أنّ ما لا يشبهنا في الواقع هو ما ثرنا عليه وأردنا إصلاحه وتغييره: الاستبداد والقمع والكبت والفساد. المستحيل المشتهى يتمثل في أن نتوقع من أوضاعنا العليلة أن تنتج مجتمعات ودولا معافاة لمجرد أننا بدأنا نرفض هذه الأوضاع، ونرفع صوتنا ضد الحكومات الفاسدة التي حشرتنا فيها لسنوات. إن أول العلاج هو التشخيص الصحيح للمرض، ونحن ما نزال في طور اكتشاف أمراضنا والبحث عن تشخيصها وطرق علاجها.اضافة اعلان
نتحدث عن الحرية، من دون أن نتوقف، على سبيل المثال، عما إذا أصبحنا أكثر ديمقراطية وإنسانية مع زوجاتنا وبناتنا، وأقل شرقية أو ذكورية. نتحدث عن الحرية وننسى أنها المقابل لأي سلطة مستبدة، سواء أكانت شيخ الدين أو رئيس الحزب أو العائلة أو العشيرة أو الطائفة.. وصولا لاستبداد الأنظمة والحكومات.
نقول إن الرأي العام في غالبيته مع الإصلاح والتغيير والحراكات، ولا نتذكر أنه لا رأي عامّا من دون حياة عامة، ولا حياة عامة من دون المواطن-الفرد الذي يعني وجوده وجود السياسة، التي تختزل في أبرز دلالاتها في قدرة الفرد على تقرير شكل حياته وواقعه بحرية وأمان ومن دون عنف.
حين نظنّ أن الشارع والجمهور هو الرأي العام، نغفل عن أنّ الرأي العام ليس بالضرورة الأعداد الغفيرة، بل هو شبكة الفاعلين في المجال العام والمؤثرين في صياغته وتشكيله وتحديد اتجاهاته وهويته؛ من قوى مالية واقتصادية واجتماعية وأصحاب مصالح ونفوذ وعلاقات داخلية وخارجية. وأزعم أن هذه كلها ما تزال الأقل عرضة للتأثر بـ"الربيع العربي" والحراكات الشعبية. ومن المهم لهذه الحراكات توسيع مِروحة "مراكز الجذب العامة"، ليُصار إلى تأسيس حراكات وطنية تتمتع بثقل اجتماعي واقتصادي مؤثر.
ما نزال نتفرج ونتسلى ونضحك على المسلسلات والأفلام والأغاني ذاتها التي جعلتنا لسنوات طويلة "نتكيّف" مع الفساد والاستبداد وثقافة "الفهلوة" والشطارة و"الواسطة"، وذلك برغم حديثنا الذي لا ينقطع عن ثقافة المواطنة ودولة القانون والمؤسسات ومحاربة الفساد. المفكرون منذ العام 1776 شكّلوا، كما يقال، عمودا فقريا لكل ثورة في العصر الحديث، لكن ثورات "الربيع العربي" غاب عنها المفكرون إلى حد بعيد. ومع "الربيع العربي" لم يخرج إلى الواجهة جدل مطلوب وحيوي يناقش جدلية السلطة والمعرفة، ويقدّم مؤشرات إلى إعادة الاعتبار لسلطة العلم والثقافة والمعرفة في الرقي الاجتماعي والوظيفي، وهذه ثقافة ليست الحكومات والسلطات من ينتجها فقط، بل هي أيضا من إنتاج المجتمعات والمعارضة وصنعها. وإنتاج سلطة المعرفة لا يكون إلا بتأكيد أن الناس يجتمعون على مصالحهم، وأن السياسة لا تكتسب مفهوما عيانيا ووطنيا محددا إذا لم تربط نفسها بهذه المصالح. وإرساء البرجوازية الوطنية من الضرورات الأساسية لقيام أي نهضة على قدمين راسختين.
ليست الثورات والحراكات "خلاصا نهائيا" أو حلاً لكل شيء، والسياسة والعمل العام يقومان، في الأساس، على ما هو نقيض تماما لفكرة الخلاص والحلول القصوى وقائمة النهايات السعيدة.
لنعترف أنّ شعوبنا بعد عقود من القمع والفساد ومصادرة الحرية ونهب الثروات قد تشوّهت كثيرا، وهي على حالها هذه، ليست الحل النموذجي المشتهى بضربة واحدة وبثورة "على المقاس". مع ذلك، فإن الحلول الديمقراطية الناقصة أفضل من الحلول الاستبدادية مهما زيّن لنا السحرة أنها كاملة و"على مقاسنا".
"الربيع العربي" فتح نافذة في أوطان لم تتعرض طويلا للشمس والهواء، فكستها العفونة، وإزالة هذه العفونة سيحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد فتح النافذة، مع أنّ فتحها هو أولى الخطوات الصائبة.

[email protected]