ليس يكفينا عراق واحد؟!

أي قيمة لتظاهرات واحتجاجات شعبية بسبب انقطاع الكهرباء، ولو أغلب ساعات الليل والنهار، في بلد لا يستطيع إحصاء عدد قتلاه اليوميين، والمتنوعين طائفياً ومذهبياً ودينياً وعرقياً، بحجم تنوع القتلة أنفسهم، ضمن ما يستحق، بشكل دقيق، وصف "حرب الكل ضد الكل"؟!اضافة اعلان
لكن الحقيقة أن الهامشية المفترضة لأزمة الكهرباء/ الفساد في العراق، هي ما يوجب التوقف عند التظاهرات والاحتجاجات التي أثارتها؛ باعتبارها ناقوس تحذير مدوٍ، ودرساً عميقاً -ولو متأخراً- لكثير من دول العالم العربي.
ففي ذروة حضور إرهاب تنظيم "داعش"، حقيقة وتوظيفاً، يصبح جلياً أن مثل هذا الخطر لم يعد يكفي "فزاعة" لإسكات المواطن العراقي عن تدهور مستوى معيشته، لاسيما في أكثر مناطق بلده هدوءاً وثراء كما البصرة مثلاً. فجذر المشكلة، بما فيها "داعش" أيضاً، يعرفه كل عراقي؛ عربي أم كردي، مسلم أم مسيحي، شيعي أم سُني، وهو ليس إلا الفساد. بعبارة أخرى، يفترض أن تكون بدهية تماماً، فإنه ليس ينهي عدم استقرار العراق، وكل دولة أخرى، استئصال كل التنظيمات الإرهابية، وفق أوسع تعريف ممكن للمفهوم تحب النخب الحاكمة تبنيه. بل إن ذلك، مع استمرار السياسات القائمة، سيفتح الأبواب فقط، ووفق أفضل السيناريوهات، لاحتجاجات مرتبطة بسبل المعيشة أساساً. وسريعاً ستفتح هذه بدورها الباب، حقيقة وغالباً زعماً، لـ"المندسين" بتعبير القابضين على السلطة الذين لا يريدون التنازل عن شيء من مكتسبات فسادهم، فكيف باستئصاله نهائياً! ووصولاً بالنتيجة النهائية إلى العودة إلى التعايش الأبدي المعروف بين الفساد والإرهاب. ألم يُبطش بسُنّة العراق باسم "المندسين" المزعومين في تظاهراتهم في العام 2013، فكان أن سيطر "داعش"؟
والاحتجاجات على غياب الكهرباء اليوم عن أحد أكبر مصدري النفط في العالم، ليس إلا أحدث دروس العراق المؤلمة التي ذهبت من دون طائل، على امتداد تاريخه الحديث الذي ضم عهدين متناقضين تماماً. لكن لا يبدو أن أحداً يريد الاتعاظ من أي من هذه الدروس حتى الآن.
فكثيرون جادلوا ويجادلون، عن حق، أن الرئيس الراحل صدام حسين نهض بالعراق، اقتصادياً وتعليمياً وثقافياً وعسكرياً.. إلى مستوى يخرجه تماماً من تصنيف العالم الثالث. إلا أن هؤلاء يرفضون الإقرار بالمقابل، أن صدام حسين ذاته، وبسبب عدم النهوض ببلاده سياسياً ديمقراطياً، هو المسؤول أساساً أيضاً عن تدمير ما بناه العراقيون في عهده؛ لاسيما منذ قراره غزو الكويت في العام 1990، وخوضه حربا مدمرة في العام التالي مع العالم أجمع تقريباً، ثم الأخطر إصراره بعد كل ذلك على مواصلة حكم البلاد بيد من حديد. فكان أن سهلت هذه الأمور مجتمعة الغزو الأميركي في العام 2003، وأشد بشاعة منه الغزو الإيراني اللاحق، مباشرة أو بالوكالة.
عراق واحد لا يكفينا؟! هذا ما كشف عنه "الربيع العربي" وما تبعه، حين أصرت أنظمة -وما تزال- على المضي حتى النهاية باستبدادها وفسادها، على حساب الأوطان ذاتها. ولتلحق بالعراق، سورية واليمن وغيرهما، غالباً وفق الشعارات المدمرة ذاتها، التي جعلت "الأمة العربية الواحدة" طوائف يتحكم بها غزاة من كل صوب، كما جعلت أقصر طريق إلى فلسطين تمر عبر رأس الرجاء الصالح، بحسب أكثر تقديرات "المقاومة والممانعة" المزعومة تفاؤلاً!