لِنحول المحَن إلى مِنح!

أسامة شحادة

في الأسبوع الماضي، فُجع الأردنيون جميعا بحادثة البحر الميت، التي فقدنا بها عشرات القتلى والمصابين تحت مياه السيل المفاجئ، ونسأل الله عز وجل أن يتغمد القتلى برحمته ومغفرته من الطلبة ونشامى الوطن الذين هبوا لنجدتهم، ونسأله سبحانه أن يلهم أهلهم الصبر والسلوان، كما ندعوه جل وعلا للمصابين والناجين بأن يتم لهم الشفاء والسلامة التامة وبأسرع وقت.اضافة اعلان
وإذا كانت التعليقات والتحليلات لم تتوقف منذ بداية الفاجعة، فإن غالبها كان يدور في فلك النقد واللوم والتقريع والتشخيص، والقليل منها كان ينطلق من دائرة العلاج والحل والاستشراف للمستقبل وكيف نحول المحن إلى مِنح!
إن وقوع الكوارث والفواجع أمر لا يمكن تجنّبه لأنها تحدث بسبب تقصير وأخطاء بشرية أو بسبب عقوبات ربانية أو هي سنن كونية ربانية، ولكن الكوارث والفواجع -مهما كانت صعبة ومؤلمة- إلا أنها تحوي أمورا إيجابية لمن أحسن التعامل معها، وقد نبهنا الله عز وجل في القرآن الكريم لهذا المعنى، فقال تعالى: "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" (البقرة: 216).
وفي واقعنا المعاصر نعرف جميعاً كيف نجح بعض الناس -بتوفيق الله عز وجل وإيجابيتهم- بتحويل مصائبهم وكوارثهم إلى فرص، ومنطلق نحو الإنجاز، إما بتفوق علمي وثقافي أو تفوق رياضي وفني أو إبداع في عمل الخير والنفع للناس وهكذا، ونعرف ونعلم جميعاً كيف كانت بعض الكوارث سبباً في إفاقة مجتمع ونهضة دولة، ولنا في نموذج اليابان عبرة بتجاوز كارثة القنبلة الذرية، وفي نموذج دولة راوندا بأفريقيا عبرة لنا حيث تجاوزت راوندا كارثة الحرب الأهلية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي لمدة 3 سنوات، والتي قتل فيها مليون شخص!
والتفكير الإيجابي الباحث عن المنح في المحن والفرصة في التحديات والحل وسط المشاكل هو التفكير المناط به صعود سلم التقدم والازدهار، والموفّق من يكون غالب تفكيره في مربع الحلول والعلاج للمشاكل ولا يغرق في مربعات المشاكل والتشخيصات والعتاب واللوم، وكما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم" صحّحه الألباني في صحيح الجامع، فإن الإيجابية أيضا يمكن اكتسابها بنوع من التمرن والتعود والممارسة.
وفي محنة الرحلة المدرسية إلى زرقاء ماعين في البحر الميت الكثير من الجوانب الإيجابية التي يجب أن نسلط الضوء عليها، ولا نقتصر على النصف الفارغ من الكوب، فمن الجوانب الإيجابية في هذه الكارثة ما يلي:
- النخوة والشهامة التي نتحلى بها كمجتمع، والتي تبدّت في سرعة استجابة المارّة والمجاورين والمدنيين والعسكريين المجازين للمجازفة بأرواحهم لإنقاذ الطلبة ومَن جرفهم السيل رغم خطورة ذلك، وقد كان لهذه النخوة والشهامة دور كبير في تقليل نسبة القتلى بين الطلبة، وإن كان بعض هؤلاء النشامى فقد حياته ثمناً لذلك، ولكنها التضحية التي يمليها الإيمان والضمير والخلق القويم.
وهناك نماذج مشرقة في هذه الحادثة الأليمة لا بد أن تخلّد وتسجل وتصبح قصصهم عبرة وقدوة للأجيال من خلال إدماجها في مناهج التعليم في نصوص المطالعة أو القصائد الشعرية أو كنماذج أخلاقية في دروس التربية الإسلامية، ومن هؤلاء الأبطال الأستاذ هاشم عيد الزيادات العبادي الذي أنقذ خمسة من الأطفال، وهناك آخرون من الشباب النشامى الذين هبّوا للنجدة والمساعدة، وبعضهم فقدوا حياتهم ولم أعرف أسماءهم، وبعضهم كان مفقوداً.
كما أن هناك أبطالا آخرين تمكنوا من إنقاذ العديد من الأرواح مثل زاهر سعد، الغطاس بالدفاع المدني والملازم أول دفاع مدني قيس عبد الحافظ أبو رمان، واللذين رغم كونهما في إجازة إلا أنهما هبّا للمساعدة والإنقاذ، وقد وفّقهما الله في إنقاذ عدد من الأشخاص.
وهناك أفراد عاديون كثيرون أسهموا بحمل الناجين والجثث والبحث فضلاً عن أفراد الدفاع المدني والأمن والجيش الذين قاموا بجهود كبيرة.
- من الجوانب الإيجابية في هذه المحنة تفاعل المجتمع الأردني بمكوناته كافة مع الحادثة شعباً ومؤسسات ومسؤولين، وهي خطوة متقدمة في الأداء الشعبي والرسمي وقت الأزمات حيث كان هناك عدم اكتراث سابقاً في عدد من الحوادث، وتحتاج هذه الخطوة إلى الحفاظ عليها مستقبلاً والاستعداد لها بوضع قائمة إجراءات احترافية ترتقي بالأداء وتتجنب السلبيات والتقصير والخطأ الذي وقع.
ومع هذا كله نحتاج إلى المزيد من التفكير الإيجابي لتحويل المحنة إلى منحة، وذلك من خلال قيام كثير من المؤسسات الرسمية والهيئات الأهلية كالنقابات والجمعيات والأفراد النابهين بتقديم مبادرات تهدف إلى توعية الجمهور العام والدولة بمواطن الخلل مع وضع حلول وتوصيات لعلاجها.
فلماذا لا تبادر الأحزاب السياسية أو النقابات -وكونها بيوت خبرة- أو الجامعات لوضع دراسات علمية لحل مشاكلنا، فمثلاً القيام بدراسة حول وضع الطرق الرئيسة في المملكة ومخاطرها وكيفية علاجها وجعل ذلك برنامج عمل يسعى الجميع لإنجازه، وبذلك يمكن تحديد مواضع الخلل في الواقع، وكشف أي ضعف أو فساد في مواصفات العطاءات أو الإجراءات عند التنفيذ أو الاستلام، وبذلك نضيق دائرة الخلل ونحقق الإصلاح المنشود.
لماذا لا يوجّه طلبة الدراسات العليا إلى المساعدة في علاج المشاكل الحقيقية التي نعاني منها على الصعيد الإداري والقانوني والاقتصادي والعمراني في أطروحاتهم الجامعية؟
لماذا لا يُفتح المجال لأصحاب الخبرة في الميدان بتقديم حلولهم للمشاكل والأزمات من واقع خبرتهم حتى لو كانت مؤهلاتهم العلمية بسيطة، لأن حلولهم تتميز بالبساطة والكفاءة وقلة الكلفة.
وكلنا سمع بقصة عامل مصنع الصابون الذي حلّ مشكلة خلو بعض العبوات من قطعة الصابون، والتي كلفت إدارة المصنع مبالغ طائلة بدون جدوى بفكرة بسيطة وهي وضع مروحة على خط سير الإنتاج، وبذلك ستسقط العلبة الفارغة عن خط الإنتاج وتنتهي مشكلة وصول علب فارغة إلى السوق!
لنسعَ إلى أن نحول هذه المحنة إلى منحة من خلال تعزيز الجوانب الإيجابية وعلاج السلوك السلبي والمبادرة للتركيز على مربع الحلول والعلاج والاهتمام بالوقاية والاستشراف للمستقبل وسد الخلل في منظومة الإجراءات وتدريب الناس على الإجراءات السديدة.
وختاماً؛ لنتذكر أن الإسلام علّمنا أن شُعب الإيمان كثيرة جداً وأن الإيجابية جزء من شُعب الإيمان، ولذلك كانت إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، فكيف بإماطة الخلل والفساد والضرر عن حياة عموم الناس، فلنحرص على أن نكون إيجابيين في تفكيرنا، وهذا يكون بالقصد والوعي والتدرب حتى تكون عادة لنا وسجية.