مؤامرات كورونا

عندما يتأخر الطب والعلم في تقديم إجابات وافية وحلولا شافية لقضية ما، يتسع حينها المجال لكل أنواع التفسيرات والتأويلات التي يفتقد الكثير منها إلى الأساس العلمي، ويجد التفسير التآمري مجالا خصبا للقبول والانتشار. لذلك وفّرت جائحة كورونا مجالا غير مسبوق لانتشار واسع لهذا النمط من التأويلات المتنوعة، والمغامرات الفكرية على مساحة الانتشار البشري على الأرض، وتقاسمت المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتأخرة هذه الظاهرة.اضافة اعلان
ولكن بعض التفسيرات التآمرية تجاوزت في تأثيرها مجرد التسلية، وتقديم تفسيرات سهلة ومريحة للذهن، وأنتجت مواقف ضارة، وخلقت اضطراباً ومعاندة للتعليمات الصحية التي تقدمها المؤسسات الصحية المختلفة، مما دفع بالاتحاد الأوربي ومنظمة اليونسكو إلى إصدار نشرات تعليمية عديدة من أجل “مساعدة المواطنين للتعرف الى نظريات المؤامرة ومكافحتها ودحضها”، وحمل التحذير عبارة “اننا نشهد في ظل جائحة كورونا زيادة في نظريات المؤامرة الضارة والمضللة، والتي قد يصعب التعرف اليها، أو معرفة السبل المناسبة للتعامل معها”.
قد لا أختلف مع الكثيرين ممن يؤمنون بوجود أحداث وحالات كثيرة يتم انتاجها أو توجيهها وفق مخططات سرية وتتم التعمية عليها من قبل قوى كبيرة وقادرة، إلا ان التوسع في تفسير الأحداث وفق هذه النظريات، يؤدي إلى الكثير من السلبية والاستسلام، فهذه التفسيرات يبقى المعقول منها في دائرة الظن والوهم والاحتمال، ولا يجوز أن نقبل مناقشته خارج هذه المستويات من المعرفة حتى تتوفر الأدلة والشواهد الكافية.
ومن الأفكار التآمرية التي سمعناها وقرأناها، وانتشرت كثيرا في وسائل التواصل الاجتماعي ما تعلق بجوانب علمية مبحوثة مخبريا مثل ارتداء الكمامة، وربط الجائحة بشكل ما بتقنيات الاتصالات الحديثة التي تعرف بتقنية اتصالات الجيل الخامس، وكلها تقنيات علمية مدروسة ومبحوثة في المختبرات، وما كان ينبغي أن يزج بها في نظريات المؤامرة، ونسوقها هنا للتدليل على تهافت هذا النوع من التفسير في الكثير من الحالات.
فقد اعتدنا في عملنا الطبي أن نرتدي الكمامات الواقية للفم والأنف في الدراسة والعمل لتقليل فرص انتشار العدوى، ويمكن أن يرتدي الكمامة كل من المصاب والفريق الطبي والمرافقين بحسب الحالة، حيث تستخدم الكمامات لهذه الغايات منذ أكثر من قرن، وأجريت عليها دراسات وأبحاث كثيرة، وبالتالي، فإن أمكن تفهم حصول نقاش حول من يجب أن يستخدمها ومتى يستخدمها، ومقدار الفائدة المتحققة من ارتدائها في الحالات المختلفة، إلّا أنه لا يمكن تصور اعتبارها جزءًا من مؤامرة لقتل الناس، أو التعامل معها بعدائية.
ثمة مجال آخر أكثر غرابة -أقحم تعسفاً في تفسير انتشار الجائحة ومبلغ تأثيرها- تمثل في ربط الجائحة بتقنيات الجيل الخامس من شبكات الاتصال الخلوي، وهي التقنية الثورية التي بدأت بالانتشار بسبب السرعة الهائلة التي توفرها في نقل البيانات، وامكاناتها الواسعة في مجال “إنترنت الأشياء”. ورغم أن منظمة الصحة العالمية وضحت موقفها منذ زمن حول هذه التقنية قبل الجائحة، وأعلنت أنه “حتى الآن، وبعد تنفيذ العديد من الأبحاث لا يمكننا ربط أي أثار صحية بالتعرض للشبكات اللاسلكية “ الّا أن ذلك لم يمنع من تحشيد الظواهر المختلفة لإيجاد تفسير ما.
صحيح أن الأبحاث التي أشارت اليها المنظمة أجريت في معظمها على الأجيال السابقة من شبكات الاتصالات ذات التردد الموجي الأقل، والمدى الأقصر، وصحيح أن آراء معارضة وازنة للتوسع في إنشاء هذه الشبكات عبرت عن موقفها، والتي كان أبرزها النداء الذي وجهه نحو 250 من الباحثين والعلماء من دول مختلفة من أجل الاهتمام بالتأثير المحتمل لهذه الشبكات في الصحة والسلامة قبل السماح بها، إلا أنها لم تقنع منظمة الصحة العالمية وأصحاب القرار في العالم. أمّا ربط هذا الجيل من الشبكات بانتشار كوفيد19 فهو ضرب من الخيال، ولا توجد فرضية يمكن بحثها لدراسة هذه العلاقة.
من الممكن أن تقبل بعض أفكار المؤامرة في تفسير أحداث سياسية أواقتصادية على نحو احتمالي، ولكن عندما ترتطم هذه الافكار بمجالات العلم التجريبي، فإن الخوض فيها يكون من باب المجازفة التي لا تلبث أن تتبدد، لأن الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يمكث في الأرض.