ماذا بعد "التعداد"..؟

تعامل البلد مع التعداد السكاني الحالي كحدث وطني، حتى إنه بدأ بعطلة رسمية. وتقول التقييمات الأولية إن العملية تجري بنجاح. وقد لوحظ حرص الأسر الأردنية على وجود أحد في المنزل يوم الإثنين لتزويد الباحثين بالمعلومات. ويعني ذلك أن الشعور الشعبي بالواجب الوطني تغلّب على الشكوك التقليدية بين المواطن والدولة. كنا نسمع -على سبيل المثال- أن الناس يخشون الإفصاح عن معلومات مالية يمكن أن تستخدمها الجهات الرسمية في تقدير ضرائبهم؛ وسمعنا عن أردنيين تبادلوا نصيحة بإخفاء معلومات معينة تتعلق بحيازتهم وثائق إقامة أو لديهم أوضاع قد تعرضهم لسحب الجنسية. لكن التعاون كان السمة الأوضح للتجربة -حتى مع مجموعة الطرائف والغرائب التي واكبتها.اضافة اعلان
على الرغم من عدم إطلاق الحكومة حملة توعية طويلة ومنهجية لتعريف الناس جيداً بعناصر التعداد السكاني وجدواه ومردوده العملي قبل موعده، يبقى الأمل أن تكون حصيلة الأرقام أقرب ما تكون إلى الدقة والمصداقية. لكن هذا الأمل لن يعني أي شيء إذا عوملت هذه الأرقام كبيانات صماء تودع في الملفات، واعتبار أن المهمة قد أنجزت. وستكون العملية كلها عبثاً محضاً إذا لم تُستخدم الأرقام فيما جُمعت لأجله: أن تكون أساساً لعملية استراتيجية تنعكس نتائجها على البلد وعلى أحوال وحياة الأردنيين.
لا حصر لاستخدامات الأرقام الإحصائية أو للجهات التي يمكن أن تستفيد منها، إذا توفرت النية لجعلها معطى في مشروع وطني تقدمي. وتشير الأدبيات الكثيرة عن هذا الموضوع إلى جملة من التوقعات التي تشكل إحصاءات السكان وأحوالهم مقدمات لها.
الغرض الأساسي من معلومات السكان هو التخطيط والتنمية وتحسين الحياة. ومن الاستخدامات العملية لإحصائيات السكان، تخطيط شبكات الطرق بناء على عدد الناس والمركبات التي يرجح أن يستخدموها؛ وتوزيع المدارس وأماكنها ونوعيتها وحجومها بناءً على عدد التلاميذ المتوقعين وخلفياتهم؛ وتزويد القطاع الخاص والاستثماري بالمعلومات المتعلقة بتحديد الاحتياجات وأين تمسّ الحاجة إليها، بناء على شرائح السكان وأحوالهم وتوقعاتهم الاستهلاكية. وتخدم المعلومات الإحصائية أيضاً قطاعات الرعاية الصحية والإسكان ورعاية المحتاجين. كما تخدم في تخصيص ميزانيات السلطات المحلية ومساعدتها في تحديد احتياجاتها وتقدير الأحمال على بناها التحتية وأوضاع سكانها.
في العادة، يعني الفشل في القراءة الصحيحة للمعلومات السكانية واتجاهاتها إساءة صنع القرار. وإذا جدّت أحوال متطرفة غيّرت كثيراً في تكوينات السكان، مثل تلقي البلد موجات من الهجرات الكثيفة، فإن تحديث المعلومات السكانية يصبح ضرورة مضاعفة. وقد شهد الأردن هذا النوع من التغيرات الديمغرافية في العقود والسنوات الأخيرة، وعلى مستوى يتطلب إعادة تقييم مدعومة بالبيانات الدقيقة للسياسات والخطط والتوجهات، لتأمين أفضل شكل من التكيف وتقليل الأضرار.
التعليقات وردات فعل المواطنين المتباينة على عملية الإحصاء الأخيرة تكشف عن مكان بين اليأس والأمل من الإجراءات الحكومية. فقد استقر في الذهن الجمعي أن الاتجاه السائد في الأداء الرسمي هو تعثر المشروعات الوطنية وسوء الحسابات في أكثر من موضع. وبذلك، يتشكل انطباع بأن جهد التعداد ونواتجه يمكن أن تذهب إلى نفس الرفوف التي استقرت عليها الكثير من الاقتراحات والدراسات والبيانات المهمة على مر السنين. وفي الوقت نفسه، يشعر المواطن بأنه لا يريد أن يكون الطرف الذي يضع العصي في الدواليب، ويميل إلى ترجيح جانب الأمل فيفي بحصته من مشروع التعداد أيضاً، عل شيئاً يتغير.
سوف يلمس الناس أثر التعداد إذا لاحظوا تغييرات في سوية الخدمات تناسب الاحتياجات وتحل المشكلات. سوف يترقبون أن يروا تحسُناً في ظروف السكن، والنقل العام وحالة الطرق، والصحة، وتوجيه التعليم حسب حاجات السوق، وتوفر فرص العمل وتحسن الحالة الاقتصادية للأسر في مختلف الأماكن ومن كل الشرائح. وبطبيعة الحال، لن يكون التعداد السكاني رقية سحرية تجعل الأردنيين يستيقظون في اليوم التالي على "يوتوبيا"، لكن جعله مشروعاً مجدياً يندرج في الاتجاه المرغوب نحو التوقف عن الارتجال، واستثمار الأنشطة والمدخلات والبيانات فيما ينعكس على حياة الناس -وهو جوهر عمل المؤسسات.
بخلاف ذلك، سيكون المحبون للعطلة قد كسبوا إجازة فقط، وربما يستفيد الباحثون في ملء أوراقهم بالأرقام الصماء، بينما يتعزز الانطباع بأننا لا يمكن أن نكون جديين، أو نأمل الاستفادة من أي شيء!