ماذا تغير في مصر خلال 100 عام؟

أسامة شحادة*

لفت نظرى بشدة اقتباس المفكر التركي الكبير فتح الله كولن، على صفحته الشخصية في موقع "فيسبوك"، جملة عميقة للرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش، رحمه الله، لخص فيها حالة الصراع التي تعيش فيها أمتنا، إذ قال: "لقد خلق دعاة الحداثة حالة من الصراع الداخلي والاضطراب في المجتمعات المسلمة، بحيث أصبح كل برنامج "إصلاحي"، سواء أكان إسلاميا أم أجنبيا، غير قابل للتطبيق. فالجماهير تتطلع إلى مشروع إسلامي، ولكنهم لا يستطيعون القيام به وحدهم بدون نخبة تقودهم، والنخبة -من ناحية أخرى- تفرض على الجماهير برامج أجنبية، ولكنها لا تجد من هذه الجماهير استعدادا لكي يسهموا بعرقهم ودمائهم وحماسهم لتنفيذ هذه البرامج المستغربة، فتبقى أبدا حبرا على ورق. وهكذا تظل القوتان في تصادم، تلغي إحداهما الأخرى، وتبقى على الساحة حالة من الشلل والعجز".اضافة اعلان
وفعلاً هذا هو الحاصل في مصر منذ الاحتلال الفرنسي. إلا أن المشهد حتى يكتمل، لا بد من استحضار السلطة الحاكمة التي سلمها المحتل مقاليد الحكم بعده لتواصل المشوار، والتي كانت تلعب دوماً على هذا التناقض بين القوى الوطنية الإسلامية وبين النخب الحداثية؛ فتارة تقرب هؤلاء، وتارة أولئك، بما يحفظ مكاسب هذه النخب ومصالح القوى الكبرى خلفها.
وما يجري في مصر اليوم هو أن النخب العلمانية الحداثية، والتي ترفع شعارات براقة من الحرية والكرامة والعدل والديمقراطية، سرعان ما تتناقض مع نفسها حين تصطدم برفض الجماهير المسلمة لتطبيقاتها لهذه الشعارات بتشجيع إهانة المقدسات ونشر الفاحشة ورفض الدين وسلطته، فتلعن هذه الجماهير وتتهمها بالغباء والتخلف وعدم الوعي، وأنها لا تستحق الديمقراطية ولا تعرف مصلحتها! ولا تجد لها من سبيل سوى التحالف والارتماء في أحضان السلطات الحاكمة، برغم عدم حداثتها وديمقراطيتها وولوغها في الدكتاتورية والفساد!
وقد تابع الجميع كيف تمت الأمور في مصر، وكيف أن قوى علمانية وحداثية كانت تصطف مع المجلس العسكري أو اللجنة العليا للانتخابات أو الحكومة في كثير من المفاصل حين تفشل في صناديق الانتخاب، سواء في الاستفتاء الدستوري أو في انتخابات البرلمان أو الرئاسة، وكيف كانت تهاجم الفائز من التيار الوطني الإسلامي، وتستقوي عليه بالسلطات والدولة العميقة!
وليس هذا الموقف المتناقض والانتهازي للقوى الحداثية بجديد على تاريخ مصر. فقد رصد الأستاذ محمود سلطان في كتابه المهم "مائة عام من معارك الإسلاميين في مصر" بعض هذه المواقف، مثل:
1- المطالبة بتنصيب الملك فؤاد خليفة على المسلمين في العام 1924 من قِبل أكبر الأحزاب العلمانية المصرية آنذاك، وهو حزب الأحرار الدستوريين –وريث وامتداد حزب الأمة الذي أسسه كرومر المندوب البريطاني في مصر– بسبب ائتلافه مع حزب الاتحاد التابع للقصر الملكي في وزارة أحمد زيوار باشا!
2 - أثناء مشاركة حزب الأحرار الدستوريين في وزارة زيوار، صدر قانون يمنع الموظفين من الاشتغال بالسياسة، وهو ما أضر بقطاع عريض من المثقفين والمتعلمين وحدّ من حريتهم السياسية. ونشر القانون في صحيفتهم السياسية. والعجيب أنهم كانوا يصرخون دفاعاً عن حرية علي عبدالرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في التعبير!
وقد علق على هذه الانتهازية أحمد بهاء الدين –وهو من كبار الكتاب العلمانيين– بقوله: "كيف يزعجهم إلى هذا الحد مصادرة رأي كاتب واحد –يقصد علي عبدالرازق– ولا تزعجهم مصادرة الدستور وآراء الناس جميعاً؟".
3 - أيضاً، أحمد لطفي السيد، رائد الليبرالية والمنافح عن الدستور والحرية، كان عضوا متكرراً في عدة وزارات قامت بالانقلاب على الدستور والبرلمان والحريات العامة!
4 - ومثله طه حسين (عميد الأدب العربي)؛ فبعد أن كان عضوا في حزب الأحرار الدستوريين وهاجم سعد زغلول في أكثر من 100 مقالة، نجده يتحول إلى النقيض ويصبح وفدياً يدبج المقالات في مدح زغلول، طلباً للحماية من آثار فتنة كتابه "الأدب الجاهلي".
إن الصراع الدائر في مصر بين القوى الإسلامية الوطنية وبين نخب العلمانية الحداثية وبين أركان الدولة العميقة، صراع متكرر، يطفو أحياناً ويخبو أحياناً، وتتغير فيه التحالفات بحسب المصالح لكل الأطراف، والخاسر الأكبر دوماً هو غالبية الشعب المسلم الذي يتوه بين هذه التحالفات والتجاذبات.
لكن إذا كان التيار الإسلامي الوطني افتقد في الماضي إلى القيادة الواعية والمشاركة الجماهيرية، وفي مرحلة تالية أصبح يعاني من تفرد جماعة الإخوان بالقرار، فإن الوضع اليوم يشهد تطورات جديدة في تركيبة هذا التيار. فقد أصبح هناك وعي أكبر بين قياداته وجمهوره، وانتهت حالة التفرد الإخواني بدخول جماعات وأحزاب أخرى حققت حضوراً بارزاً ولافتاً يقوم عليه السلفيون كحزب النور والأصالة، أو جماعات جهادية كحزب البناء والتنمية، أو المنشقون عن الإخوان كحزب الوسط، أو بعض الإسلاميين المستقلين مثل حازم صلاح أبو إسماعيل.
ولذلك، أعتقد أننا سنشهد ممارسات سياسية إسلامية جديدة وغير مألوفة، تصب في صالح رفع الوعي والمشاركة الهادفة للتيار الإسلامي الوطني، بعيداً عن حالة التفرد الإخواني بالقرار، على غرار انحياز حزب النور لدعم عبدالمنعم أبو الفتوح في انتخابات الرئاسة في الجولة الأولى، أو إيجابية حزب النور في التعاطي مع أزمة تأسيس لجنة كتابة الدستور في المرة الأولى، أو المبادرة الخلاقة لحزب "البناء والتنمية" التابع للجماعة الإسلامية بالتنازل عن مقعديه لصالح الخبرات القانونية ولتجاوز قضية أغلبية التيار الإسلامي في لجنة كتابة الدستور.
التيار الإسلامي الوطني يمر بمرحلة تحولات وتطورات، ويزداد حجمه ووعيه. ولذلك، ليس من المصلحة بأي شكل من الأشكال أن يترسخ في وعيه الجديد أن لا جدوى من الشراكة والتعاون مع القوى الأخرى، سواء القوى الحداثية العلمانية أو الدولة العميقة، وأن المطلوب دوماً منه هو التنازل للآخرين بحجج وذرائع شتى ودون وجه حق أو عدل، بحيث ندخل في حالة من دكتاتورية وتسلط الأقلية على الأغلبية والأكثرية، في تصادم مع كل البدهيات وأشكال المنطق. لأن الارتدادات التي ستنجم عن ذلك لا يمكن التنبؤ بها أو التحسب لها، ولن تجدي الحكمة بأثر رجعي في ذلك الوقت.


*كاتب أردني