ماذا عن حقِّ المواطن..؟!

يعرف الجميع أن أي حقّ للدولة على المواطن لا يمكن أن يضيع. فإذا كانت عليه استحقاقات يمكن استيفاؤها بحرمانه من خدمة، قُطعت عنه تلك الخدمة فوراً حتى يدفع المتقدم والمتأخر، بالإضافة إلى غرامة إعادة الخدمة. وإذا كانت استحقاقات يمكن تأجيلها، فإنها تُسجل عليه وتتراكم مع الغرامات إلى يوم لا مفر منه، يُجبر فيه على الدفع. ولا اعتراض على التزام المواطن بما يستحق عليه للدولة، خاصة أن الغاية من هذه الاستحقاقات (نظرياً) هي إعادة ما دفعه إليه في شكل خدمات مستدامة وحسَنة تجعل حياته أكثر سهولة.اضافة اعلان
لكنَّ هذا الشرط بالتحديد، الخدمات المستدامة الحسَنة، يثير سؤالاً ربما يبدو طوباويا، لكنه ينتمي غالبا إلى مملكة العدالة: هل يستطيع المواطن إذا تعرض لضرر بسبب سوء الخدمة أن يقاضي الدولة ويحصل منها على تعويض؟ على سبيل المثال، إذا كان مواطن يسير ليلاً في شارع محروم من النور، وسقط في حفرة تركتها ورشة لدائرة حكومية أو متعاقد مع الدائرة، هل يستطيع أن يوكل محامياً ويقاضي الجهة المعنية ويطالبها بالعطل والضرر؟ وإذا كان ثمة إمكانية لمثل ذلك، فلماذا إبقاء المواطن جاهلاً بإمكانية تحصيل حقوقه وكيفياتها؟
ربما تبدأ المشكلة بأنه يكاد يستحيل تحميل دوائر الدولة المسؤولية عن شيء في المقام الأول. وسأروي حادثة أعرف عنها، على سبيل التوضح:
ذات مرة، قامت جهات العناية بالطرق بتوسيع شارع منحدر مستدير على أحد الجسور، لكن توسيع الشارع انقطع عند نقطة معينة، حيث تُرك رصيف مرتفع داخلاً مسافة متر تقريباً عن حافة التوسعة المعبدة. وفي اليوم التالي، استخدم الطريق سائق يعرف الشارع الذي يسلكه يومياً، لكنه استفاد من السعة على يسار الشارع، ليتفاجأ بالرصيف داخل الشارع أمامه مباشرة. وكان الاصطدام الحتمي الذي ألحق ضرراً بالغاً بسيارته. وعندما جاء التحقيق المروري، اصطحب الشرطي الذي وصل مسبقاً إلى المكان ضابطه الأعلى ليريه مكان الاصطدام، وأشار إلى خلل الشارع الذي سهَّل وقوع الحادث. وحسب معرفتي بذلك المكان، أُصلِح الخلل لاحقاً بحاجز حديدي يضيق الشارع تدريجياً حتى يلتحم بحافة الرصيف.
ولكن: كان التشخيص في الرسم الكروكي دان السائق بـ"استخدام مسرب خاطئ"، علماً بأن الشارع ليس فيه مسارب أصلاً، ولا خطوط، ولا هو باتجاهين، ولا على يساره خط أصفر ولا فيه إشارة تحذير من الرصيف، ولا أي شيء على الإطلاق. وبعد إصلاح السيارة الذي تكلف آلافاً، حرفياً، وجد السائق عند الترخيص مخالفة بمبلغ 50 ديناراً، حيرته في أمرها حتى فهم أنها عن الحادث و"المسرب الخاطئ" المختلق إياه.
أتصور، حسبما يقتضي المنطق، أن المتضرر النهائي في هذه الحالة هو السائق وممتلكاته. وكان يجب أن يُذكر في الكروكي أن المتسبب في الحادث هو خلل الشارع ذي الرصيف في منتصف الطريق، والذي بلا إشارة تنبه المستخدمين. وليس هناك أي منطق في تحميل السائق مسؤولية ليست له، أو تقاضي مخالفة منه على ذنب لم يرتكبه. وإذا ذهبنا أبعد في الأمل، فإن من حق السائق –أو شركة التأمين التي تدفع كلفة الإصلاح- مقاضاة الجهات الحكومية المنفذة أو المشرفة على ذلك "الإصلاح" غير المتقن.
لا عدد للأمثلة التي يمكن سردها على الأضرار التي يتعرض لها مواطنون جراء سوء الخدمة، أو رداءة الطرق، أو تعقيد وتعطيل المعاملات التي يَكتشف الناس بعد أيام من العنت أن الذي عطلها كان سوء تقدير الموظف وليس نقص الوثائق والأوراق، ومثل ذلك مما يمكن تصنيفه في باب "العطل والضرر". فإذا استتُنت قوانين للمحاسبة على الأخطاء الطبية، أو لمحاسبة صناعي قصَّر في توفير وسائل السلامة العامة في منشأته، فلماذا لا يكون هناك ترتيب يمكِّن المواطن من مقاضاة الشخصية الاعتبارية لدوائر الدولة على تقصير واضح ألحق به ضرراً واضحاً؟
ربما يساعد مثل ذلك في تحجيم الفساد البائن في تنفيذ المشاريع والإشراف عليها، وفي رفع سوية الخدمات. فلو دفع جماعة إنارة الشوارع، مثلاً، تعويضات لمواطنين تعرضوا لحوادث بسبب قطع التيار عن مصابيح الطرق في الليل، ودفع جماعة تصريف المياه كلفة إصلاح سيارة تحطمت بسبب غطاء منهُل مفتوح وسط الشارع في الشتاء، فإن دفع ما يستحق للمواطن ربما يكون رقيباً معقولاً. أم لا؟!