ماذا لو هاجرت أغنى مدن الولايات المتحدة إلى العالم؟

ترجمة: ينال أبو زينة 

عمان - كانت المنطقة الساحلية تبني السفن حتى قبل أن يعتبر أي شخص هذا المكان مركزا للاقتصاد التكنولوجي، وقد تم ذلك بمساعدة أجزاء عديدة أخرى من الدولة.اضافة اعلان
كانت أشجار "تنوب دوغلاس" المعبأة في شمال غرب المحيط الهادئ تتحول إلى خشب هنا. وتحول الصلب القادم من الشرق، عبر السفن التجارية، سفنا تجارية. وخلال الحرب العالمية الثانية، صنع العمال السفن الحربية من قطع أتوا بها من أجزاء مختلفة من الدولة: التوربينات البخارية من سكينيكيكو، نيويورك؛ والروافع من تاكوما، واش؛ ومعدات الراديو من نيويورك؛ والبوصلات من ديترويت؛ والمولدات من ميلووكي.
لكن معظم هذه الروابط، التي ربطت إزدهار المنطقة الساحلية بشبكة من المناطق البعيد عنها، تلاشت بالكامل تقريباً. فقد أغلقت "ويستنغهاوس" مصنع بنسلفانيا. وتضاءل حجم "جينيرال إلكترتريك" في شنيكتادي. وتفككت شركة التصنيع في ميلووكي. وسوف تخضع ساحة بناء السفن القديمة في سان فرانسيسكو قريبا لإعادة التطوير.
وليست الشركات التي تقود الثروات في المنطقة الساحلية –والتي تمثل جزءا من الاقتصاد الأميركي الذي يزدهر-تحتاج الآن إلى هذه المجتمعات بالطريقة السابقة نفسها. فليس لمنتجات "غوغل" الرقمية سلسلة توريد مادية. ولا تملك شركة "فيسبوك" مصنعين في الشتات. وتنتج شركة "آبل"، التي تصنع أشياء ملموسة، مصنعاتها بشكل رئيسي خارج حدود الدولة.
لقد كان الاقتصاد المتغير جيدا جدا بالنسبة لهذه المنطقة، ولعدد آخر من المناطق الساحلية الأخرى مثل نيويورك وبوسطن وسياتل. لكن الخبراء الاقتصاديون والجغرافيون يتساءلون الآن عما تعنيه طبيعة هذا النجاح بالنسبة للدولة بأكملها. ما الذي سيحدث للتصنيع الأميركي عندما يتحول وادي السيليكون إلى الصين؟ أين سيكون محل مدن المطاحن والتعدين من الإعراب عندما تتحول المدن الكبيرة إلى العمل الرقمي؟ كيف ستستفيد ولاية نيويورك الجديدة عندما تصعد مدينة نيويورك أعمالها في طوكيو؟
سوف تكون للإجابات آثار اجتماعية وسياسية في الوقت الذي تشعر فيه مساحات واسعة من الدولة وأنها غريبة وبعيدة جدا عن المدن "النخبة"، والتي تظهر عن بعد وأنها لم تصب بأذى من تفريغ القوات في مجتمعات أصغر. وسيمضي الأمر إلى حد أن يعتقد الكثير من الأميركيين أنهم مفصولون عن الازدهار في هذه المناطق الرئيسية –حتى وإن كانوا يستخدمون التطبيقات والخدمات التي طورت هناك.
وفي هذا السياق، تقول الاختصاصية الاجتماعية في جامعة كولومبيا والتي درست مدن العالم التي تحتل مناصب متميزة في الاقتصاد العالمي، ساسكيا ساسين: "تحتاج هذه الأنواع من الاقتصادات الحضرية إلى اقتصادات حضرية رئيسية أخرى أكثر مما تحتاج إلى اقتصادات الإنتاج المعيارية لمدن أخرى في دولها". بحيث تحتاج نيويورك إلى لندن بكلمات أخرى.
ومثل هذه الصورة، وفقا لساسين، "تكسر نمطا سابقا كانت فيه مجموعات المدن الأصغر تغذي فعليا صعود المدن الكبرى. والآن أصبحت المدن الكبرى تغذي بعضها بعضا، والأمر يحدث في العالم أجمع".
ويقدم البروفيسور في كلية فوكس للأعمال في جامعة "تمبل"، رام مودمبي، فرضية أكثر إثارة للأعصاب في شكل جزأين اثنين: كلما كانت مدينة أكثر إرتباطا بالعالم، كلما كانت أكثر إزدهارا. وبينما تكسب هذه المدن روابط عالمية أكثر، ربما تكون بذلك تظلل المدن المحلية التي خسرت دورها في الاقتصاد الحديث أو أعمالها لمصلحة دول أخرى.
ويخشى الزميل المتميز في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، ريتشارد لونغ وورث،  أن يكون هذا ما يحدث تماما في شيكاغو. فلطالما جلست هذه المنطقة في مركز شبكة من الروابط الاقتصادية التي تتقاطع مع الغرب الأوسط. وقد ربطت الدولة شيكاغو بمدن طواحين ويسكونسن التي أرسلت حطابيها إلى هناك، ومزارعي أيوا الذين وفروا اللحوم للمدينة، وأكشاك ومنازل الجليد التي ظهرت على طول السكك الحديدية لنقل هذا اللحم إلى نيويورك.
وفي هذا الخصوص، أوضح لونغ وورث: "لقد كسرت هذه الروابط". ومن الطبيعي أن بعضها بقي سارياً. وليست كراهية المدن الكبيرة المزدهرة ثيمة جديدة في التاريخ. "لكن هذا شيء مختلف: فهذا أعمق. وإنه أيضا، بقدر ما يمكننا أن نرى الآن، دائم السريان ببساطة لأن الاقتصاد الذي دعم العلاقات السابقة قد تلاشى الآن، في حين أنه لا يبدي شيئا من بوادر العودة".
في جزء كبير من القرن العشرين، كان الأجور في الأجزاء الأكثر فقراً من الدول ترتفع بشكل يفوق الأجور في الأجزاء الثرية. واصبحت الاختلافات والمستويات تضيق، ما نتج عن الهجرة بين هذه الأجزاء ومكاسب الصناعة التحويلية التي ساعدت في انتشال المناطق التي كانت سابقا فقيرة للغاية. وفي نقطة زمنية ما، لنقل حول العام 1980، بدأ هذا التقارب يتلاشى، وفقاً لورقة بحثية قامت عليها باحثة "برنستون"، إليسا جيانون.
لقد بدأت المدن التي تحوي العمال المتعلمين مثل بوسطن وسان فرانسيسكو ونيويورك، تنسحب بعيدا. وهذا النمط، كما وجدت جيانون، قد قيد تماماً بما يحدث للعمال عالي المهارات: فعندما يتجمعون معاً في هذه المناطق، ترتفع أجورهم حتى أكثر من ذلك. وهذا ما يوسع فجوة غياب المساواة داخل المدن الثرية من جهة، وبين المناطق الثرية والفقيرة من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، قالت جيانون: "لقد سرت التغييرات الكبيرة على مدى 30 عاما. والآن أصبحنا نشاهد بأعيننا آثارها".
وقد أتت هذه التغييرات من اتجاهات متعددة –من العولمة والحوسبة، ومن تحول الولايات المتحدة بعيداً عن التصنيع إلى اقتصاد المعرفة والخدمات. وقد عصفت هذه الاتجاهات بالعديد من المدن الأصغر والمناطق غير الحضرية. والحقيقة السياسية غير المريحة هي أنها أفادت أيضاً مناطق أخرى مثل سان فرانسيسكو ونيويورك.
من جهته، المدير السياسي لبرنامج سياسة المحافظة في معهد "بروكينغ"، عقب مارك مورو، على هذا الأمر قائلا: "لقد تحولت القاعدة الاقتصادية بطريقة تفضل مدن معينة –الكبرى بالتحديد- لأنها أصبحت تستند الآن إلى المعرفة وتبادل الأفكار والتكتل".
وتستفيد البرامج حقيقةً ما تكتل المبرمجين حولها، الأمر الذي يختلف عن تجمع العمال في صفوف على أرض الواقع. إن هذه هي قوى التكتل الحقيقية، التي أتاحتها المدن الكبرى، في ضوء أنها تعتمد على العمل المعرفي الذي أصبح محورا رئيسيا للاقتصاد.
وفي ما يخص الأحاديث التي صالت وجالت عن العولمة، وكيف أنها كلفت أميركا وظائف التصنيع، لا بد أن نقول أنها خلقت وظائف أميركية أيضاً –لكن تلك التي تدفع أجورا مرتفعة منها عادة ما تذهب إلى المدن الرئيسية والكبرى.
وتجادل سياسين بأن الاقتصاد العالمي خلق احتياجات جديدة للشركات: محاسبين مختصين بقوانين آسيا الضريبية، ومحامين خبراء في قوانين الاتحاد الأوروبي، والمسوقين الذي يفهوم أميركا اللاتينية. ويجب على المدن العالمية أن تتواصل مع مدن عالمية أخرى لاستغلال هذه الموارد، والتي أصبحت أكثر قيمة بالنسبة إليها من الخشب والفولاذ.
ويرتبط المخترعون في هذه المدن الرئيسية العالمية أيضا بشكل متنامٍ ببعضهم البعض. وباستخدام عناوين المخترعين المشراكين في براءات الاختراع، تعقب السيد مودمبي الارتفاع الحاد –الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي- للروابط العالمية من عدد قليل من المناطق الأميركية الساحلية، والتي أصبحت اليوم بين الأكثر ازدهار في الدولة.
وما تزال العديد من الشركات الأميركية تصنع المنتجات المادية، بالإضافة إلى إبتكار الأفكار والمنتجات الرقمية. ولكن العولمة غيرت من يستفيد من الأعمال التجارية أيضا، متيحة للشركات الفصل بين العمل الفكري وبين العمل الروتيني وتوزيع هذه الأدوار عبر العالم أجمع. ووضع العمل المعرفي أساساً للبقاء في الولايات المتحدة. والعمل الروتيني هو ما كان يؤدى تاريخياً في المناطق النائية. وهذا في جزء كبير منه هو العمل الذي إنتقل إلى ما وراء البحار.
من جهته، أوضح باحث بارز في مركز الأداء الصناعي التابع لـ"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا": "تعتبر شنتشن المنطقة البعيدة التي يستخدمها وادي السيليكون".
وما يزال الناس في مدن "حزام الصدأ"، حيث لا تملك "جوجل" مكتباً لها، يتسخدمون محرك البحث العملاق خاصها. وما تزال شركتي "فيسبوك" و"تويتر" تطلبان الأصول المادية في مزارع الخوادم. وتعمل "أوبر" في حوالي 250 مدينة أميركية.
ولكن هذه الأنواع من الروابط تنشر إزدهار المنطقة الساحلية بشكل حقيقي. ولا تخلق مزارع الخوادم وظائف طبقة متوسطة جماعية. واستخدام "غوغل" لا يشبه أن تكون لك يد في تطويره بطبيعة الحال.
ومع أن ابتكار "أوبر" سوف يصل في نهاية المطاف إلى المدن الأصغر مثل تكساس وأوهايو، "لكن الفوائد الاقتصادية لهذا الأمر ستكون في مقرات أوبر فقط"، كما أوضح مايكل ستروبر، وهي جغرافي اقتصادي في جامعة "يو سي إل إيه". "سوف يكون المنتفعون ماليا من الأمر في مناطق صغيرة. تماما حيث تحدث الإبتكارات لأول مرة".
وقالت ساسين: "إننا إذا وضعنا الأمر في سياق قاس أكثر، فعندما تحتاج المدن العالمية إلى مجتمعات أخرى اليوم، فإنها غالباً ما تريد إمتصاص القيمة منها". ويحتاج مصرفيوا نيويورك إلى رهون "ميديل أميركا" العقارية لإصدار الأوراق المالية، فيما تحتاج الشركات حديثة النشأة في سان فرانسيسكو إلى السيارات المعطلة في كل مكان لتوليد تقييمات بقيمة مليارات الدولارات. وتحتاج عمالقة الإنترنت إلى الأراضي رخيصة الثمن من أجل بناء مستودعاتها.
وربما تتلقى بقية البلد الإبتكارات التي تتدفق خارج المدن العالمية الرئيسية، وتكون الفوائد التي تعود على المستهلكين حقيقية. ويقول السيد ستوربر في هذا الخصوص: "ولكن في الوقت الذي يتم فيه ذلك، ستكون هذه المدن الرئيسية قد ابتكرت شيئاً جديداً وجعلت من نفسها أثرى من الأخرى مجددا". "وقبل أن يتمكن أي مكان آخر من اللحاق بها، لا شك أن سان فرانسيسكو قفزت إلى الأمام مرة أخرى بالأشياء الجديدة التي ابتكرتها".
وتبقى المزايا التي يمنحها الاقتصاد العالمي أكثر تعقيدا من هذا البعد. فقد وجد بحث قام عليه كل من فيليبي كامبانتي من "هارفارد" وديفيد دروت من جامعة "زيورخ" أنه عند ربط مدينتين ببعضهما البعض عبر الرحلات الجوية المباشرة، تزيد العلاقات التجارية بينهما هي الأخرى، وتبعا لهذا المبدأ فإن المناطق التي تتمتع باتصالات أكثر تنمو وتتقدم اقتصاديا بشكل أكبر. ومع ذلك، فإن هذه الفوائد الاقتصادية، لا تظهر وأنها تمس المناطق التي تبعد 100 ميل عن المطار.
ووجد هارلد باثلت من جامعة "تورنتو" أن الشركات في الجماعات التقنية الكندية الرائدة تميل إلى الاستثمار في المجموعات التقنية الرائدة في الصين، والعكس صحيح. ومن هنا، فهي تصب الموارد في المناطق التي ترتبط بها بشكل وثيق، لاسيما تلك التي تبدي نجاحات مماثلة.
وعلق باثلت على الأمر قائلا: "شركات تورنتو وأوتاوا ووترلوس ستربط نفسها بشنتشن في الصين، وبميونيخ واستكهولم في أوروبا. وعلى هذا الأساس ستفقد مناطق أخرى أهميتها".
من جهته حلل كريغ سبنسر، وهو باحث آخر من جامعة "تورنتو"، البصمات العالمية لأكبر 500 شركة عالمية في الصناعات المتقدمة مثل الآلات والخدمات الرقمية وعلوم الحياة –متتبعاً مقراتها ومكاتبها المحلية ومصانعها ومتاجر التجزئة خاصتها. وتبين أن المدن العالمية الرئيسية تبرز في الشبكة العالمية التي نشأت حديثاً، أما المدن الأضعف نفوذا وشأنا فهي تتصل بالاقتصاد العالمي من خلال المرور عبرها.
وقال سبنسر: "ما زلت مستمرا في الرجوع إلى فكرة أن كل هذا يتعلق بالقوة والنفوذ". وهو يعني السلطة النسبية –وأي المناطق تكسب أو تخسر مع التحولات الجغرافيا الاقتصادية أيضاً. وفي حال تركت مناطق في الخلف فهي "لن تخسر نفوذها وحسب، بل ستخسر اتصالها بمحاور النفوذ أيضاً".
وهذه الدينامية دائماً ما تترك المناطق الأصغر تحت رحمة المدن العالمية الكبرى، حيث القرارات تصاغ حول أي المصانع يجب أن تغلق وأي المناطق تصلح لخلق الأعمال فيها. ولذلك تحولت كل من "تولسا" و"بافالو" و"توكسن" إلى سياتل متضرعين لإيجاد وظائف لدى "أمازون". لكن أيا منها تملك ما تبحث عنه شركة "أمازون" مع ذلك: مطار دولي برحلات جوية مباشرة إلى سياتل وإلى المنطقة الساحلية ونيويورك وواشنطن.

"نيويورك تايمز، إميلي بادجر"