ماذا نفعل بالعروبة؟

من الصعب التغافل عن أن النزاعات بين البلدان العربية أكثر من أن تطمسها الدعوات الوحدويّة أو الحضّ الخطابيّ على التوحّد لمقاتلة إسرائيل.

اضافة اعلان

 

منذ نشأتها في العام 1945، تعيش الجامعة العربيّة خلافات العرب وتعانيها، فيما تعجز عن التأثير فيها. والشيء نفسه يصحّ في قممها منذ قمّة أنشاص التي تلت تأسيسها.

فخلاف مصر الملكيّة مع العراق الهاشميّ ما لبث أن استؤنف، بضراوة أكبر، في الخمسينيات، بعد قيام النظام الجمهوريّ العسكريّ في القاهرة، وكان "الصراع على سوريّة" (حسب تعبير باتريك سيل في كتابه الشهير) عنوانه الأبرز. وفي أواخر الخمسينات، احتدم الصراع هذا متوازياً مع إسقاط النظام الملكيّ في بغداد واندلاع الحرب الأهليّة في لبنان، مقابل قيام الوحدة المصريّة – السوريّة. ومضت الأمور على هذا النحو مع الانفصال السوريّ عن "الجمهوريّة العربيّة المتّحدة" وحرب اليمن في الستينات مصحوبة، منذ العام 1963 ووصول البعث إلى السلطة في العراق وسوريّة، بنزاع ضارٍ بين الناصريّة والبعثيين. هكذا استُكملت "حرب عربيّة باردة"، حسب تعبير مايكل كير في عنوان لكتاب شهير آخر. وما بين حرب العام 1967 ورحيل جمال عبد الناصر في العام 1970، عجّت المنطقة العربيّة بالحروب والمنازعات، بعضها دار من حول الثورة الفلسطينيّة في الأردن ولبنان، وبعضها تركّز على المنافسات الكثيرة لوراثة الزعامة الناصريّة. وفي السبعينات، ما إن خدم "التضامن العربيّ" غرضه، كما تجسّد في حرب تشرين /أكتوبر 1973، حتّى عاد التفكّك ليبلغ الذروة، فانشقّ العالم العربيّ حول سياسات أنور السادات وقوطعت مصر ونُقل مقرّ الجامعة العربيّة من القاهرة إلى تونس. أمّا الثمانينيات فشهدت انشقاقاً لا يقلّ حجماً من حول الحرب العراقيّة – الإيرانيّة التي دامت عقداً واستهلكت قرابة مليون إنسان من أبناء البلدين المتحاربين. ثم افتُتحت التسعينات بانشقاق آخر، من حجم هيوليّ أيضاً، أثاره احتلال صدّام حسين للكويت. بعد ذلك شكّلت الحرب الأميركيّة في العراق والخروج السوريّ من لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري أسباباً تفجيريّة جديدة للوضع العربيّ. وفي هذه الغضون، عرفت العلاقات الجزائريّة – المغربيّة والمصريّة – الليبيّة والمصريّة – السودانيّة والأردنيّة – السوريّة والفلسطينيّة – السوريّة واللبنانيّة - السوريّة، وطبعاً العراقيّة – السوريّة، ناهيك عن السعوديّة – القطريّة واليمنيّة – اليمنيّة وأخيراً الفلسطينيّة – الفلسطينيّة واللبنانيّة – اللبنانيّة، حالات من التردّي كانت تصل أحياناً إلى الاحتكاك الصداميّ المباشر.

وهذا جميعاً كان يطرح على بساط البحث دور الجامعة العربيّة ورابطة العروبة بمعناها المؤسّسيّ، فلا تكاد الأسئلة تخبو حتّى تجدّد إسرائيل تذكيرنا بأن معاهدة الدفاع العربيّ المشترك باتت جثّة هامدة. وكانت تنعقد، في هذه الأثناء، مؤتمرات قمّة يقاطعها هذا البلد أو ذاك، أو تقاطع هذا البلد أو ذاك، على ما جرى في قمّة بغداد في العام 1979 حيال مصر.

بيد أن ذلك كلّه لم يترافق مع انعقاد قمم عربيّة عدّة متوازية بقدر ما هي متعارضة، الأمر الذي يشيع إحساساً يقارب اليقين بأن العروبة المؤسّسيّة، من خلال الجامعة العربيّة، تلفظ أنفاسها الأخيرة. فإلى جانب توطّد الدول القائمة وترسّخ مصالحها بالاستقلال عن مصالح دول أخرى، وأحياناً بالتضادّ معها، صار من الصعب التغافل عن أن النزاعات بين البلدان العربيّة، والنزاعات داخل البلدان العربيّة، وبعضها مسلّح وعنفيّ، أكثر بكثير من أن تطمسه الدعوات الوحدويّة الشعاريّة واللفظيّة أو الحضّ الخطابيّ على التوحّد لمقاتلة إسرائيل. حتّى القضيّة الفلسطينيّة الموصوفة بأنّها أهمّ القضايا المشتركة بين العرب، كونها قضيّتهم "الكبرى"، لم تعد مشتركة كثيراً، بل هي لم تعد مشتركة في ما بين الفلسطينيّين أنفسهم. والأدلّة على ذلك تمتدّ من انفصال غزّة، بقوّة سلاح حركة "حماس"، عن الضفّة الغربيّة، وتخوين محمود عبّاس وسلطته، إلى تولّي خالد مشعل وأحمد جبريل ورمضان شلّح تمثيل فلسطين في قمّة الدوحة الأخيرة.

وقصارى القول إن المطلوب التوقّف عن الندب ومناشدة "العرب" أن يتوحّدوا. فالواقع هو الواقع، وقد آن الأوان كي يتعامل معه الجميع بواقعيّة، بعيداً عن التأرجح بين الحبّ اللفظيّ والكراهيّة الفعليّة. فـ"العرب" دولاً وشعوباً وجماعات، يقلّ يوماً بيوم ما هو مشترك في ما بينها وفي مصالحها. وأهمّ من كلّ من عداه أن نعترف بهذا، علّ الاعتراف يكون الخطوة الأولى كي نتجنّب العنف في إدارة نزاعات العرب وخلافاتهم. وهذا، في حال تحقّقه، طموح كبير جدّاً.