ماذا يشغل الأردن والأردنيين؟

ربما يكون هذا السؤال الأكثر شغلا للكتاب والصحافيين؛ فهم معنيون بأن يعكسوا اهتمامات المواطنين، وقضايا الوطن الأساسية والملحة والأكثر أهمية. وبالطبع، فإنه السؤال الأكثر أهمية وصعوبة وتعقيدا في الشأن العام، فربما تكون القضايا التي تشغل الناس والمؤسسات المدنية والرسمية ليست هي الأكثر أهمية وإلحاحا، وربما تكون القضايا الأهم لا تحظى بالإدراك والتقدير، وربما -وهنا الكارثة سواء عن وعي أو جهل- تجري صناعة اهتمامات للبلاد والعباد ليست هي المطلوبة، أو لا ينبغي أن ننشغل بها، أفرادا ومؤسسات ومجتمعات.

اضافة اعلان

وبالطبع، فإنها ليست حالة خاصة بالأردن، فأستاذ الإعلام والاتصال هربرت تشيللر، في كتاب "المتلاعبون بالعقول"، يعتقد أنه جرى إقناع الشعب الأميركي بالتصويت ضد أكثر مصالحه أهمية في سياق من الإعلام والصور والمعلومات تحدد معتقدات الناس وسلوكهم أيضا، وتحت غطاء من الديمقراطية والحياد والموضوعية والحرية الإعلامية والسياسية.

والمستهلك للصحافة الأردنية اليومية تدهشه قدرة بعض الصحافيين والكتاب على التقاط القضايا والملاحظات والأفكار، لكنه على الأغلب في حيرة وتساؤل وقلق عن اتجاهات السياسة العامة التي يفترض أنه (المواطن) يشكل هدفها، ويجب أن يشارك في صياغتها، وأن يتحول الإعلام لديه إلى مصدر للتفكير والتخطيط واشتقاق السياسات والأولويات والمواقف بدلا من أن يكون وعاء محايدا يعكس حالة الجدل والتفكير في السياسة العامة، ويغطي بموضوعية خريطة المصالح والأولويات.

ماذا يشغل الصحافة في الأردن، وماذا يجب أن يشغلها؟ وما هي القواعد الصائبة التي تحدد الاحتياجات والاولويات والمصالح، والتي يجب محاسبة الحكومة والمؤسسات والصحافة على تغطيتها ومعالجتها؟ الإجابة المباشرة والبسيطة لدى الصحافة والكتاب هي "السوق" وما يشغل الناس ويتوقعون أن يجدوه في الصحف، ولكن هل تتشكل هذه الاتجاهات وفق قاعدة التنافس والاستهلاك والعرض والطلب، أم أنه تجري صياغتها وتجاهلها؟

في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال -والاستخدام الأميركي للأمثلة هو من أجل القياس والتعميم كون الإعلام الأميركي هو المهيمن عالميا، ولأنه تتاح لنا دراسات مهمة وموضوعية لتحليله، ولأن المثال يعفي من المسؤولية أيضا، فالولايات المتحدة هي الحمالة التي نعلق على نقدها ومعارضتها ما نريده بالفعل في بلادنا- لا يشكل برأي تشيللر التنوع الإعلامي قضية يعتمد عليها في الاختيار والموضوعية، فالنتيجة كما لو كان ثمة مصدر واحد.

وعند وقوع أزمة حقيقية أو كاذبة أو مفتعلة، ينشأ جو هستيري محموم بعيد تماما عن المعقولية، ويؤدي إلى الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة المترتب على الإصرار على فورية المتابعة، بما يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع، ومن ثم تكون الخطوة التالية هي إفراغه من أهميته، ونتيجة لذلك تضعف قدرة الجمهور على التمييز بين درجات الأهمية. فالإعلان متلاحق السرعة عن حدث أو خبر أو قضية ما يحول العقل إلى غربال تصب فيه التصريحات والإعلانات، أقلها مهم وأكثرها لا أهمية له، وبدلا من أن يساعد الإعلام في تركيز الإدراك وبلورة المعنى، نجده يسفر عن الإقرار الضمني (اللاشعوري) بعدم القدرة على التعامل مع موجات الأحداث المتلاحقة التي تطرق بإلحاح على وعي الناس، فيتعين عليه دفاعا عن النفس أن يخفض درجة حساسيته واهتمامه، فتكنولوجيا الاتصال باستخداماتها الحالية تروج لتوجهات مضادة للمعرفة.

وهكذا يبقى الجمهور في دوامة من الأحداث والتدفق والإغراق، ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، ويقدم إليه الوعي جاهزا لكنه وعي مبرمج ومعد مسبقا باتجاه واحد مرسوم. وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك، فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار، وتخالف المجموع العام ويبدون مجانين! وقد يضطرون (وهذا ما يحدث غالبا) إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم وهاتف ضميرهم، ويتظاهرون بأنهم مثل كل الناس، ويقتلون بالتدريج ملكة التساؤل والتحليل، أو يقبلون على مضض ويمارسون سرا متعة اللوم والتأنيب، كأنما يهربون من أنفسهم أو يكفرون عن ذنوبهم.

 

[email protected]