مانديلا ما يزال يدهش العالم

ما يزال هذا الرجل الأسطورة يدهش العالم حتى وهو على عتبة الموت كما يبدو في القوة الملهمة التي يمنحها للعالم. نهاية الأسبوع الماضي مر اليوم العالمي لمانديلا وهو في مرقده في إحدى مستشفيات بريتوريا، وهو اليوم الذي يصادف عيد ميلاد الزعيم الأفريقي الخامس والتسعين، فيما أشارت الأخبار إلى تحسن أحواله الصحية، بينما خرج عشرات الآلاف من الأفارقة ومن أنصار الحرية ونبذ الكراهية والعنصرية في طول العالم وعرضه، في حملات لنشر الوعي والدعوة للقيم التي قضى من أجلها 27 عاما في المعتقلات.اضافة اعلان
ما يزال مانديلا يملك القدرة على إلهام العالم ودفع ملايين البشر لعمل المستحيل من أجل التغيير والقبول بالتعددية الإيجابية ونبذ الكراهية والعنصرية. المفارقة الأفريقية الكبرى تضعنا أمام سؤالنا الكبير والحرج في هذا الجزء من العالم الذي تحول للأسف لمتحف للكراهية ولأعمال العنف؛ كيف تتحول المجتمعات العربية ومجتمعات الشرق الأوسط بشكل عام إلى الحاضنة الأخيرة لتفريخ الكراهية ورفض التعددية، وكيف يُولِّد استمرار الجذر العنصري المتمثل في الكيان الاسرائيلي المزيد من التعقيد على هذه الحالة التاريخية المستعصية.
القوة الملهمة الكبرى التي يتركها والد أفريقيا تبدو في المفارقات العظيمة التي أوجدتها الديمقراطية المتعددة الأعراق التي أسسها مانديلا. في يوم ميلاده يقوم الرئيس الأفريقي جاكوب زوما، وتكريما لمانديلا، بتوزيع مفاتيح عدد من البيوت على فقراء من البيض، بينما قامت مجموعات من ابناء قبيلة مانديلا بتقديم المساعدات والملابس لعشرات العائلات في أحياء الصفيح التي تقطن فيها عائلات من البيض والسود على حد سواء. هؤلاء تعلموا دروس مانديلا الكبرى (لا يمكنك ان تحرر احداً، ولا يمكنك مساعدة أي شخص قبل أن تحرر نفسك من المرارة والكراهية والبغض).
العالم الذي تعلّم الكثير من تجربة الزعيم الأفريقي الكبير، دعا في يوم مانديلا الملايين من البشر إلى ممارسة العمل التطوعي لمدة 27 دقيقة، فيما يرمز إلى عدد السنوات التي قضاها في السجن، في أعمال تنبذ الكراهية وتدعو الى العيش المشترك.
أكثر مناطق العالم ومجتمعاته التي بحاجة الى قراءة سيرة مانديلا والتعلم من دروسه، هي مجتمعات وشعوب هذا الجزء من العالم. ولعل أعظم تلك الدروس التي يهديها مانديلا لشعوبنا أنه عندما خرج من السجن العام 1990 بعد 27 عاما قضاها في سجون الأبارتايد، لم يسعَ إلى الانتقام أو الإقصاء، ولم يدخل في لعبة استقطاب وانقسام سياسي واجتماعي جديد، بل  تفاوض مع السلطة القائمة آنذاك على فترة انتقالية ناعمة نحو الديمقراطية.
وبعد أن أصبح رئيسا العام 1994 لم يسجل عليه التاريخ أبدا إهانة أو تهميش البيض؛ داعيا في المقابل إلى تجذير المصالحة الوطنية وتحويلها الى جزء من الممارسة في الحياة، ومن الدروس الأخرى التي تستحق المراجعة كيف حافظ هذا الزعيم على علاقات متوازنة رأسمالها الحقيقي الاستقلالية التي لم تقلل أبدا من مكانته حتى وسط الأعداء والخصوم الذين صادقهم معا، فقد حافظ على علاقات دافئة مع فيدل كاسترو وحافظ على مواقفه المعروفة من القضية الفلسطينية إيمانا بقوله المشهور (الحرية لا تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرا أو لا يكون).