ما أقل الثمن!

"… فأي جيل يمكن أن يحمي سيادة القانون أو أن يدير مؤسساتنا وقد ترسخت الولاءات الفرعية فيه على حساب وطنه؟"
سؤال استنكاري عميق طرحه جلالة الملك عبدالله الثاني في الورقة النقاشية السادسة حول سيادة القانون ودورها في بناء الدولة المدنية وعملية الإصلاح الإداري. سؤال يدفع المرء للتأمل في واقع الحال، ويدفعني للتساؤل أيضًا عن أي جيل سيحمي سيادة القانون، وهو يرى القانون ذاته ينتهك ويتم التلاعب بمبادئه.اضافة اعلان
في السياق المحلي، درج الجميع على الجهر برفض الفساد والفاسدين وخاصة الفساد الإداري والسعي نحو الدولة التي تحترم القانون، وكان الاتهام دائما يتوجه نحو السلطات التي تنتهك الحقوق والحريات ونحو التشريعات والقوانين، ولكن وقفة موضوعية مع العديد من الممارسات وما نشهده حولنا يقتضي منا أن ندرك أن التجاوزات على القانون ذاته تحدث في الكثير من الأحيان ممن تغنوا بالقانون ودرسوه واعتبروه مشروع حياتهم.
تضارب المصالح واختلاط الخاص في حياة الأفراد بالشأن العام، والازدواجية الضاربة في الجذور ونقل ساحات المعارك الخاصة إلى مؤسسات الدولة، جعلت للعدالة وجوها كثيرة عند من يتغنى بالقانون ويدعي أنه منهج حياة؛ تطويع للنصوص القانونية وفقًا لما يقتضيه واقع الحال، تبرير الخروج عن المبادئ القانونية والدستورية الثابته والمستقرة إرضاء لأطراف أو سعيا لتحقيق مكاسب خاصة أو الانتصار الموهوم بمعارك جانبية.
إذن نحتاج مراجعة لذواتنا، وأن ندرك الحاجة العميقة لمدى فهمنا لفلسفة القانون، وعمق مفهوم سيادة الحق بادئ ذي بدء عند من منحهم القانون في إداراتهم سلطة التقرير في العديد من المسائل التي تمس حقوق الأفراد. هؤلاء الذين يقومون في العديد من الحالات بممارسات فردية، إلا أنها بالرغم من فرديتها تراكم ظلمًا يلحق بالكثيرين ليبدؤوا رحلة البحث عن الخلاص، هذه الرحلة التي قد تشكل نقطة تحول في حياة الكثيرين وتزلزل في نفوسهم القيم الثابتة والمبادئ.
آفة مؤسساتنا العامة والفساد الإداري الذي استشرى يكمن في أشخاص يُلبسون الباطل ثوب الحق والقانون، ويستثمرون في المعطيات المُستجدة أداةً للتحايل على النصوص القانونية وقلب الحقائق بعد تحريفها.
شخصيات من ورق تلك التي تصنع الأمجاد على حساب المصلحة العامة، شخصيات من ورق تلك التي باعت بثمن بخسٍ ودراهم معدودات نظريات القانون ومبادئه الكبرى التي ناضلت البشرية للوصول إليها، شخصيات من ورق تلك التي اتخذت القانون مطيةً وأداةً عوضا عن أن يكون منهجا للعمل وهدفًا يسعى له الجميع.
إن أي عملية إصلاح إداري جذري وعميق تحتاج إلى كفاءات قانونية تؤمن بالعدل والمساواة، وتنأى بذاتها عن الاعتبارات الشخصية وترفض من تلقاء ذاتها السلطة المُطلقة، وتعمل من أجل سيادة الحق والقانون وبغير ذلك –وكما أكد جلالة الملك عبدالله الثاني- "ستكون أسس العمل العام عرضة للتقويض، وستكون الممارسات القانونية المشوبة بالاعتبارات الأخرى وسيلة نحبط بها الشباب الكفء والمتميز، أو نزرع فيه قناعة بأن مستقبله مرتبط بقدرته على توظيف الواسطة والمحسوبية لتحقيق طموحه".
عندما نضع الوطن ومصلحته العليا بسيادة الحق والعدل والإنصاف والقانون وسموه وعلو هامته في كفة، وأي ثمن مهما غلا وعلا يكون مقابلا لتأويل القانون والانقلاب على مفاهيمه الراسخة والتجاوز عليه خدمة لمصالح شخصية ضيقة في كفة أخرى، عندها أقول: ما أقل الثمن مهما علت موازينه.