ما الذي حدث لـ"الأردنية"..؟!

في رده على الاتجاه القائل بأن الولايات المتحدة أصبحت في طور تراجع وانحدار، قال مفكر أميركي أن أميركا لا يمكن أن تكون في تراجع عندما تكون لديها عشر من أفضل الجامعات في العالم، وعندما يرتادها الطلبة الطامحون للدراسة من كل مكان. وقد لفتني في ذلك الحين هذا المعيار لقياس مكانة الدول وتقدمها أو أفولها. وكلما دار حديث يتصل بالجامعات في الأردن، أتذكر هذه الصلة المحقة بين أحوال الجامعات وبين حالة البلد. ولا يمكن أن تكون ثمة صلة أوضح من ذلك.اضافة اعلان
ربما تشكل الجامعة الأردنية بالتحديد المرآة التي تنعكس فيها صورة الأردن ككل. فهي الجامعة التي نشأت معه تقريباً وحملت اسمه. وعندما أنشئت هذه الجامعة، أراد الأردن أن يدرّس طلبته في جامعة منسجمة مع مجتمعه ومعجونة بقيمه، بدل الاعتماد بالكامل على الدراسة في الخارج. وسرعان ما خرَّجت "الأردنية" طبقة متعلمة متميزة من أبناء الأردن، وتتابعت أجيال الخريجين الأكفاء الذين تجاوزت أدوارهم بناء البلد إلى المشاركة في تعليم ونهضة الدول الشقيقة. ونسمع من الرعيل الأول من طلبة "الأردنية" عن أسماء عربية كبيرة من الأساتذة الذين جاؤوا للمشاركة في مشروع "الأردنية". وفي تلك الأيام، في الستينيات والسبعينيات، كانت للطلاب اتجاهات فكرية وطنية وقومية غير منفصلة عن التطلع الأوسع إلى التقدم في المنطقة. وإذا كان ثمة اختلاف بين الطلبة، فاختلاف ربما ينشأ في منطقة الرؤى والأفكار، ويُحل على أساس الحوار والتفاوض، وليس العداء والشجار.
في جيلنا المتوسط، في الثمانينيات، كان الذي تغير هو اعتماد الجامعة أكثر على الأساتذة المحليين، بعد ابتعاث أفضل خريجي الجامعة لاستكمال دراساتهم العليا في الخارج والعودة. لكن اتجاهات الطلبة العامة كانت تتحدد أيضاً على أساس الأفكار: إسلاميون، يساريون، قوميون، أو محايدون غير معنيين بالانتساب إلى فكر محدد. ولم يكن هناك شيء اسمه مشاجرات جماعية على هذه الأسس ولا غيرها. كان التنوع يجسد نفسه عند انتخابات الجمعيات والاندية الطلابية فقط، ومن خلال صندوق الاقتراع. وكانت الجامعة في تلك الأوقات تشبه الأردن، بشرائحه وفئاته، حيث الميل الواضح إلى التصالح والانصهار وتقاسم المشروع. بل إن الجامعة الأردنية كانت أكثر تميُّزاً من المجتمع الأعم وتقدُّماً عليه في أسس العلاقات بين طلبتها.
ثم شرعت الأمور في التغير في "الأردنية" –والجامعات الأخرى التي نشأت بعدها. وأصبح التغيران الأبرز هما تراجع المستوى التعليمي وكفاءة الخريجين؛ وتكرار المشاجرات الجماعية الكبيرة التي لا يمكن أن تكون سمة لجامعة في أي مكان صحّي. وإذا كانت الأمور هكذا في "الأردنية"، التي أصرُّ على اعتبارها أصلح مكان لقياس حالة البلد، فإنّ الجميع يجب أن يقلقوا كثيراً، وأن يكون بحث المعنيين عن حل لهذا الخطر القومي جاداً وواضحاً وسريعاً. فالجامعات تعني البلد.
الكثيرون شخصوا الأسباب، من تراجع مستوى التعليم المدرسي، إلى أسس القبول والكوتات في الجامعات الرسمية ومصادرة استقلالها، إلى هجرة الاساتذة الأكفاء وما إلى ذلك. لكنَّ الجامعة في التحصيل الأخير هي مكان يجمع عينة من شباب البلد، ممن يعكسون العقلية والتربية والاتجاهات السلوكية العامة فيه. وقد خطر لي سؤال عند متابعة أخبار المشاجرات المتكررة في "الأردنية" وغيرها: كيف يستطيع طالب واحد راغب في الشجار أن يحشد بسهولة عشرين أو ثلاثين شخصاً من خارج الجامعة، ويجعلهم يخوضون مغامرة التسلل إلى الحرم الجامعي ويخوضون معركة؟ والمفروض أن يأتي هؤلاء بنية إيقاع الأذى بغيرهم أو التعرض للأذى الجسدي أو الاعتقال هم أنفسهم؟ وكيف يقبل هؤلاء على أنفسهم تشويه سمعة بلدهم وتدمير الجامعات التي خرجت آباءهم أو خرجتهم؟ أيّ عقل اجتماعي هذا وإلى أين يذهب بالبلد؟
سلوك العصبة الذي وجد مساحة للتجلي في المجتمع كله يجب أن يُضبط، لأنه لا ينتج إلا رعاعاً فالتين من العقال. لكنه يجب أن يُبعد بكل السبل عن الجامعات، باستبعاد كل المقدمات الواضحة التي يتحدث عنها المعلقون. وفقط إذا أعيدت الجامعة الأردنية، أم الجامعات، إلى ألقها السابق، مكاناً للإبداع والسلم الاجتماعي والتحاور الحضاري، وقبلة لمحبي التميز والمعرفة، سيستطيع الأردنيون الاطمئنان على مسارات ومستقبل البلد.