ما تيسر من سيرة الموتى

كثير من الزمن فيه القليل من التاريخ. ليست هناك طرق معبدة، ولا قوانين ثابتة لهذا التاريخ؛ أي لفهم فكرة التقدم في هذا الجزء من العالم. في الأزمنة اللاحقة منذ أن استقيظ العرب على موتهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان اكتشاف الموت معولا آخر لنبش المقبرة وإعادة تدشينها، ليس على الأرض، بل في عمائر الذهن. فتوالي تدفق الزمن الذي أسس لسلسلة من الانتكاسات والقفزات الواهمة، في مشهد من البلاهة، استحضر الجميع وغيّب الحاضر والحاضرين، إذ بقي الحاضر مشدوداً بين استقطابين، هما التراث والغرب.اضافة اعلان
لقد عمل الشعور الحاد بالتراجع، إلى جانب اليقين المفرط بالقدرة على الصعود، على اكتمال حلقات الوهم؛ أحياناً بإسدال الستائر بيننا وبين العالم، وأحياناً بالإيهام بأن محطات التراجع وثبات نهضوية، وأحياناً بإثراء المتخيّل بأوهام سرقة أزمنة الآخرين.
في نهاية القرن الثامن عشر، كان الطالب الغربي يملك عدة وذخيرة عن العالم الإسلامي؛ نحو 70 كتاباً حول اللغة العربية جرت طباعتها في أوروبا، و10 معاجم فارسية، و7 معاجم تركية. أما عن الوضع على الجهة الأخرى، فلا شيء في العربية، ولا شيء بالفارسية أو التركية. أما المعجم العربي الأول مع لغة أوروبية، فيعود إلى العام 1828م.
منذ استيقظ العرب على موتهم، سادت المشاريع الطارئة للنهضة الموهومة، بالاتكاء على روابط هشة ومتعبة، ونوايا مؤجلة لأزمنة الآخرين تارة، وأزمنة الذات الماضية تارة أخرى. ولا بد من استذكار الشعارات التي وضعها كل من قادة النهضة اليابانية وقادة النهضة المصريّة، إذ تزامنا بالشروع في دخول التاريخ، فدخل اليابانيون التاريخ وخرج المصريون من الأبواب الأمامية. الإمبراطور الياباني "مايجي" كان شعاره الذي شيد على أساسه النهضة اليابانية "الحقوا الغرب وتجاوزوه". فيما حاول قائد مشروع النهضة المصريّة الطارئة تشييد مشروعه على شعار يقول: "مصر قطعة من أوروبا". الأول شيّد مشروعه على قدرات الذات، وبناء علاقات ندية مع العالم تأخذ كما تعطي، وتتقدم نحو جذور الحداثة في تجربة الذات. بينما راح الآخر إلى بناء علاقات مريبة ونفي متواصل للكينونة، وغفلة دائمة عن القاعدة الاجتماعية الممعنة في الموات والفوات.
حينما أعلن الخديوي "إسماعيل" أن مصر جزء من أوروبا، احتاج الكثير من المثقفين إلى عشرات الأعوام كي يكفوا عن الصراخ خلفه، في الوقت الذي حاولت فيه بيوت المال والحكومات الغربية أن تجعل من تلك المقولة معولاً ثقافياً ذا بال في أوساط المثقفين المصريين. وحينما حاول أحد رواد الفكر الإصلاحي، هو خيرالدين التونسي، إسداء النصائح المتتالية لفرنجة تونس، لعب الاقتصاد والمساعدات الفرنسية الدور الأكبر لترجمة نواياه؛ ليس في البنى التحتية، وفي حياة الناس ومعاشهم، بل في مغازلة المثقفين.
لا جديد رغم الازدحام، ورغم الحركة العارمة في تحريك الراكد السياسي والاجتماعي، ورغم الفوضى وغموض الخيارات، ما دامت الأزاميل لم تحفر عميقا في عمائر الذهن، ولم تمس الطريقة التي نتصور بها ذواتنا والآخرين والماضي. ويتكرر الأمر هنا وهناك لمشاريع طارئة تروي أجزاء من سيرة الموتى الذين عجزوا عن إنتاج تاريخهم بذاتهم.

[email protected]