" ما في أمان "

 

 يطلق تقرير التنمية الانسانية العربية الجديد 2009 الصادر بعنوان "تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية "صرخة  جديدة تؤكد خلاصة ما رددته أجيال من المجتمعات العربية على مدى عقود من عهود دول ما بعد الاستقلال وملخصها  ( ما في أمان) ، لكن الصرخة هذه المرة تأتي موثقة بالبحث العلمي والمؤشرات والخلاصات النوعية واستطلاعات الرأي العام التي تمثل تقييم الناس والمجتمعات والأفراد لحالة الأمن الإنساني.

اضافة اعلان

 في تقديري؛ ومن القراءة الأولية يبدو تقرير التنمية الانسانية العربية لهذا العام  من أهم إذ لم يكن الأهم بين التقارير الخمسة السابقة التي نجحت منذ عام 2002 في التأسيس لتقليد علمي مدني  يشكل أهم مراجعة نقدية للحياة العامة في العالم العربي من منظور تنموي.

 هذه الأهمية كما تبدو في موضوع التقرير فإنها أيضا تتجسد في المعالجة العلمية والمجتمعية التي تثبت على مدى فصول هذا العمل العلمي كيف ينعكس الجدل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي المكون للحياة في نهاية المطاف في حالة الأمن الانساني، التي تقود إلى أسئلة المصير والقلق المرهقة، فالأمن الإنساني هو المحدد الأساسي لخيارات الناس والمجتمعات وهو بيت الأسرار في معظم المصائر التي آلت إليها قضايانا الكبرى والصغرى أيضا حينما تصل المدارات والنهايات الحزينة إلى أن يبحث الجميع عن المصير بخلاصهم الفردي، وبالتالي الأمن الإنساني يجيب عن السؤال المركزي حول إعاقة التقدم وهو الذي يفسر عمق الآثار المجتمعية التي تركها ضعف وهشاشة البناء الاقتصادي والثقافي والسياسي في أمن الإنسان العربي، الذي صار عبر عقود الدولة الوطنية كائنا لا يملك مصيره، مرعوبا ومهددا في أمنه في المجال الطبيعي من حوله وفي كينونته الاجتماعية والسياسية ومرعوبا في أمنه الاقتصادي فاقدا للونه وهويته ولا يدري إلى أين تأخذه المصائر المعدة له سلفا، ومن هذه الزاوية يجب إن يقرأ هذا التقرير وليس من خلال ترديد بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحولت الى أوعية من دون دماء أو حياة.

  مشكلة الأمن الإنساني تلخص محصلة كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ عربياً يزداد أثرها عميقاً كلما اعتقدنا أننا نتقدم وتزداد تناقضاتها التي تجيب على السؤال المركزي حول جذور ونتائج إعاقة التنمية،  في هذا الجزء من العالم فقط يتنقل الناس من الخلاص من الفقر المدقع بمفهومه الاقتصادي كما كان سائداً قبل التسعينيات إلى المزيد من الفقر الإنساني كما هو سائد اليوم أي الفقر في الحرية والتعليم واكتساب المعرفة والصحة، وينتقل الناس نحو مستويات معتدلة من المساواة في الدخل إلى المزيد من الإقصاء الاجتماعي الذي ازداد خلال العقدين الماضيين في معظم البلدان العربية، وحسب التقرير تنخفض معدلات الجوع في البلدان العربية خلال العقد الماضي في الوقت الذي تزداد المنطقة انكشافاً في الأمن الغذائي، ما يعني هشاشة حقيقية في كل ما ينجز، ومع انخفاض معدلات الجوع وازدياد انكشاف الأمن الغذائي يزداد زحف البدانة في العالم العربي الذي يهدد بأن يجعل هذه المجتمعات وبالأخص النساء وفق آخر المؤشرات أمام كارثة صحية حقيقية.

   وفيما يتعلق بالأمن الإنساني والدولة العربية يبرز التقرير فجوة واسعة في مدى قبول المواطنين لدولتهم، وفجوة أخرى في مدى الالتزام بالعهود والمواثيق الدولية وفي كيفية ادارة الدولة لاحتكارها للقوة ، حيث أن إدارة القوة لا يخضع لأي رقابة ما يمثل تهديدا جديا لأمن الإنسان العربي أينما اتجه، وهو ما يجعل العلاقة بين الدولة وأمن الإنسان ملتبسة، فالأصل أن تكون الدولة هي الضامن الأول لحقوق الإنسان،  في العالم العربي تمثل مصدر التهديد الحقيقي لهذه الحقوق.

  في الاستطلاع الموازي الذي تضمنه التقرير حول أمن الإنسان العربي، والذي تم تنفيذه في أربعة مجتمعات عربية ( الأراضي الفلسطينية المحتلة، الكويت، لبنان، والمغرب ) لفتت النتائج إضافة إلى تواضع ثقة المواطنين بمؤسسات دولهم إلى نتيجة أخرى مدهشة مفادها أن تردي الثقة يبدو أكثر في اثنتين من الدول الأكثر إنجازا في مجال الديمقراطية وهما لبنان والمغرب.

 القصة تختصر بأنه لا يوجد أمان لكي يعيش الناس وينجزوا ويبدعوا ويتقدموا وبالتالي يضحوا من اجل ما انجزوه ، نتذكر المقولة الكئيبة التي كانت تضع مصير الانسان العربي بين أن يسجن أو يهادن أو يهاجر.

[email protected]