ما مستقبل الاتحاد الأوروبي؟

بقلم إبراهيم شكري دبدوب*
عمان- أزمة أوروبا الحالية هي انعكاس مباشر لأزمة العام 2008 عقب انهيار بنك "ليمان براذرز"، لكنها أشد حدة، ففي الأزمة السابقة، كانت الحكومات قادرة على اتخاذ القرار وكانت لديها الوسائل لإنقاذ نظامها المالي. أما اليوم، فتبدو الحكومات الأوروبية عاجزة عن إنقاذ نفسها.اضافة اعلان
بعد انهيار "ليمان براذرز"، اجتمع وزراء مالية الدول الأوروبية في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2008 واتخذوا قرارهم الشهير بعدم السماح لأي مؤسسة مالية "مؤثرة" بالانهيار، تبعتهم في هذا التوجه الولايات المتحدة، بعدها، أعلنت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل أن هذه المسألة تقع على عاتق كل دولة على حدة، وليس على عاتق الاتحاد نفسه، في رأيي، هذا بالتحديد، زرع بذور الأمة الحالية، لأن دعم الأنظمة المالية والمصرفية ألقى الضوء على أكثر وجوه الاتحاد الأوروبي ضعفا: وهو غياب السياسة المالية الموحدة؛ أي غياب التنسيق بين السياسات المالية المختلفة للدول الأعضاء. وبالتالي، لم يستغرق الأمر وقتا طويلا لأن تقع أوروبا في أزمة جديدة.
إن غياب السلطة الأوروبية الموحدة في ما يتعلق برسم وتنفيذ السياسة المالية. والمتمثلة بالخزانة المشتركة. هو ما يجعل الأزمة الحالية أشد حدة. فهذه السلطة تتطلب إرادة سياسية أراها مفقودة حاليا، والأسوأ أن التناسق السياسي بين مختلف أعضاء الاتحاد الأوروبي في تراجع مستمر منذ أن اتفقوا على توحيد العملة، ونتيجة لذلك، لا أرى حلا منظورا لأزمة أوروبا؛ إذ إن جل ما فعلته الدول الأوروبية هو شراء الوقت عبر إرجاء الأزمة قدر المستطاع، وليس مجابهتها.
لم يميز القادة الأوروبيون الأزمة الحالية عن سابقاتها؛ ففي الأزمات العادية يمكن شراء الوقت بهدف الحد من حالات الهلع التي ترافق الأزمات الى حين عودة بناء الثقة، لكن هذه المرة، كان الوقت عاملا ضاغطا؛ إذ مع غياب الإرادة السياسية، تفاقمت المشاكل وتفرقت السياسات، والإجراءات التي كانت تبدو مناسبة لمواجهة الأزمة قبلا، أصبحت اليوم من دون فعالية مع مرور الوقت.
لكن أين نحن الآن؟ وماذا بعد؟ في الواقع، يبدو أن الأوروبيين قد أدركوا أهمية توحيد السياسات المالية (أو على الأقل تنسيقها)، وقد بدأوا في عملية خلق سلطة مشتركة لهذه الغاية، ويمكن تحديد ملامح هذه السلطة في برنامج "الاستقرار المالي الأوروبي" الذي اتفقت عليه الدول الأعضاء السبع والعشرون في الاتحاد الأوروبي في أيار (مايو) 2010 كما في برنامج "آلية الاستقرار الأوروبي" الذي سيتبعه انطلاقا من منتصف العام 2013.
لكن رغم ذلك، تبقى الشائبات عديدة وجوهرية، فبرنامج الاستقرار المالي الأوروبي لا يتمتع بالرسملة الكافية، كما أنه غير محدد المهام ومنقوص الصلاحية، إذ بينما كان من المفترض له أن يوفر شبكة أمان لمنطقة اليورو برمتها، جرى حصره لتمويل حزمات الإنقاذ للدول الأوروبية الصغيرة مثل اليونان والبرتغال وايرلندا، من دون أن يكون قادرا على دعم اقتصادات الدول الأكبر مثل إسبانيا وإيطاليا، كما أنه لم يصمم أصلا لمعالجة مشاكل القطاع المصرفي الأوروبي، رغم أن نطاق مهامه قد توسع ليشمل البنوك الى جانب الدول، وبالنتيجة، لا يتعدى البرنامج كونه آلية تمويل مكبلة، لا سيما وأنه فاقد للقرار الذي ترك في يد حكومات الدول الأعضاء. وهذا ما يجعله غير قادر على مواجهة الأزمة الحالية أو أي أزمة أخرى.
وبالتالي، يبدو أن السلطات الأوروبية قد بلغت نهاية الطريق، ولم يعد هناك وقت كاف. وحتى لو استطاعت تجنب الانهيار الكبير، فإن الضغوطات لخفض العجوزات المالية من شأنها بالتأكيد أن تدخل منطقة اليورو في حالة ركود مطولة. وهذا ستكون له أثمانه السياسية. وقد يهدد "التناغم السياسي" في أوروبا.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن حالة الهلع في الأسواق المالية مبررة؛ فارتفاع أسعار الفائدة على السندات الحكومية، وانخفاض أسعار الأسهم مدفوعة بأسهم البنوك، وحتى تراجع اليورو نفسه دون هامش التداول التقليدي له، كلها مؤشرات تعيد الى الأذهان انهيار العام 2008.
في ظل هكذا ظروف، لا سبيل أمام أوروبا، في رأيي، إلا أن تستعد لأن تعلن بعض الدول توقفها عن السداد على نحو منظم وتخليها، ولو مؤقتا عن اليورو، بدلا من المنازعة الى حين الاستسلام مجبرة، لأنه حينها سيتكرر مشهد "ليمان براذرز" أمامنا، لكن هذه من دون سلطات قادرة على المواجهة.
وبالإعداد والاستعداد، على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ مجموعة من الإجراءات العملية لحماية الدولة الأخرى ذات العجز المالي؛ أهمها: ضمان الودائع في البنوك الأوروبية، ودعم بعض بنوك الدول التي تنوي إعلان إفلاسها لتجنب التدهور الاقتصادي، وإعادة رسملة البنوك الأوروبية التي يجب أن تخضع لرقابة الاتحاد نفسه وليس للسلطات المحلية، وكل ذلك سيكون له ثمن ستدفعه الدول الأخرى والمؤسسات الأوروبية وربما العالمية على نسق صندوق النقد الدولي، لكنه يبقى أقل من ثمن الانهيار التام.
وفي الواقع، أن تتحضر أوروبا لأن تعلن بعض الدول إفلاسها إراديا وعلى نحو منظم، لا يعني تفكك الاتحاد الأوروبي، بل إنه سيوفر عددا من الخيارات الجديدة، كما أنه سيحد من خطورة انتقال العدوى الى الدول الأخرى التي تعاني أصلا من آفاق نمو سلبية تعززها سياسات التقشف المعتمدة، باختصار، أن يستعد القادة الأوروبيون لإفلاس ثلاث دول أفضل من "أن يتفاجأوا" بانهيار الاتحاد برمته، الى حين إنشاء خزانة أوروبية موحدة قد تكون بارقة الأمل الوحيدة لبقائه في المدى الطويل.


*الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك الكويت الوطني، عضو مجلس إدارة معهد التمويل الدولي ومجموعة بريتون وودز العالمية في واشنطن.