ما وراء هذا العنف المجتمعي

حادثة الشّاب الذي قام بإحراق نفسه في شارع الجاردنز في العاصمة عمّان قبل نحو أسبوعين، مرّت مرور الكرام، سواء على مستوى المؤسّسات الرّسميّة، أو على مستوى المؤسّسات الأهليّة. لم يعقد أحد مؤتمراً صحافيّاً لتبيان ما حدث، ولم تقم جهة بدراسة هذه الواقعة، باعتبارها جزءاً من ظاهرة اجتماعيّة خطيرة أخذت تطفو على السّطح في الأعوام القليلة الماضية، اسمها العنف المجتمعي!

اضافة اعلان

ثمّة حوادث عنف كثيرة تجري تباعاً: محاولات انتحار متعدّدة تقع هنا وهناك، اشتباكات بالعصيّ والأيدي، وأخرى (مسلّحة) تندلع في المدن والقرى، وبعضها يقع في أمكنة غير متوقّعة كالحرم الجامعي مثلاً.

ترى ما الذي يحدث بالضّبط! جنون كامل ينبعث من جوف المجتمع، أزمات طاحنة تتلاطم في الأعماق، وتُعبّر عن نفسها بهذه الصّور المتعدّدة من العنف. لكنّ الذي يبعث على القلق هو حالة اللامبالاة التي تتلبّس الجميع إزاء ما يحدث ويتفاقم. فبدلاً من أن تقوم الدّنيا ولا تقعد حين تقع هناك حادثة من طراز تلك الحوادث، نجد هذه السّكينة الفارغة التي نتقنّع بها، ونُقنِع أنفسنا بها، وكأنّ شيئاً لم يحدث.

في سبعينيّات القرن الماضي، تناقلت الأنباء خبر سقوط طفل إيطالي في أحد مجاري الصّرف الصّحّي في ضواحي روما، فما كان من أجهزة الدولة جميعها إلا أن استنفرت من أجل إنقاذ حياة الطفل. لم تُجدِ محاولات إنقاذ الطفل نفعاً وباءت بالفشل. عندها حدث هناك ما يشبه الزّلزلة في إيطاليا، وبسبب هذه الحادثة التي اعتُبِرت في حينها مأساة وطنية، استقالت الحكومة الإيطالية بجميع وزرائها ومسؤوليها.

جاء في إفادة الشّاب الذي قام بإحراق نفسه في الجاردنز، أنّه أقدم على فعلته ليلفت الأنظار إلى المشاكل التي يعاني منها، والتي تتضّح من إفادته أنّها تتعلّق بالفقر والحاجة.

في الدّول المتقدّمة، الدّول التي تحترم الإنسان وتحترم حقوقه المدنيّة، يتمّ توفير العمل للأفراد، فإن لم يجد أحدهم عملاً قام بمراجعة أحد مكاتب التّشغيل، ويحصل على مرتّب شهري حتى تجد له الدّولة العمل المناسب. لو كان مثل هذا الأمر متداوَلاً عندنا لذهب ذلك الشّاب إلى مكتب التشغيل المذكور، وحلّ مشكلته بشكل نهائي.

يوماً بعد يوم، صارت تتفاقم لدينا المشاكل حتى باتت تهدّد البنية المجتمعية، وتقوّض حالة السّلم الاجتماعي. فبعد أن تمّ سحق ما كان يُعرَف بالطّبقة الوسطى، وهي تلك الطّبقة التي نهضت بمهمّة بناء البلد حتى أواسط الثمانينيّات من القرن الماضي، تفشّت في المجتمع مجموعة من الأزمات والأمراض الخطيرة كالفقر والبطالة والفساد والمحسوبية. في هذا الوقت بالذات سقطنا في فخاخ العولمة، وأحابيل رأس المال التي جلبت لنا أردأ وصفة عرفها التاريخ المعاصر لمعالجة الأزمات الاقتصادية، وهي التي تتمثّل بالخصخصة. لقد تسببت الخصخصة وإطلاق العنان لحريّة السّوق بكلّ هذه الفوضى التي قضّت مضاجعنا.

بالمناسبة هناك من يردّ هذه الانتكاسات التي وقعنا فيها، إلى مجمل التّحولات التي أصابت دولاً كثيرة في العالم بفعل هذه العولمة التي نتحدّث عنها، غير أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد وهم كما يقول المفكّر العربي النّاصري
عبد الحليم قنديل، والذي يوصّف السّنين الثلاثين الماضية بقوله إنّها كانت من أكثر السّنوات ثوريّةً في تاريخ الإنسان المعاصر، ويضرب أمثلة على ذلك، كنهوض الصّين، وتشكّل ما عُرِف بالنّمور السّبعة، ثمّ الحالة الثورية التي تشهدها دول أميركا اللاتينية.

العنف المجتمعي لن يتوقّف بالسّكوت عنه، ولكن بمواجهته، ومواجهة أرض الظّلام التي تغذّي جذوره.

[email protected]