مبادرة "ذاكرة السرو" في الجامعة الأردنية

كان منظر الأشجار التي أطاحت بها العاصفة "أليكسا" يدمي القلوب، وقد تحوّلت المناظر الخلابة في الجامعة الأردنية إلى خراب في كل مكان. لكن لم تمر أسابيع على العاصفة الثلجية، حتى استطاع طلبة كلية الفنون في الجامعة تحويل "قرامي" الأشجار المتناثرة في كل مكان إلى رائعة من روائع "الأردنية".اضافة اعلان
على مدى أكثر من أسبوعين، تحوّلت المنطقة المقابلة لمدرج سمير الرفاعي إلى ورشة إبداع وابتكار، للنحت على جذوع الأشجار التي أطاحتها "أليكسا". ولا أبهى ولا أروع من مشاهدة طلبة كلية الفنون يصلون الليل بالنهار، مستخدمين المناشير والأزاميل، مطلقين العنان لأفكارهم وإبداعاتهم، وبإصرار عجيب، لتحويل جذوع الأشجار إلى تحفٍ فنية سوف تخلّد الأضرار التي لحقت بالأشجار والمكان، وتنشئ ذاكرةً للجامعة والمستقبل، وليجسدوا بذلك أروع الأمثلة في الوطنية والانتماء.
لقد بعث هؤلاء الشباب والشابات "الروح " في المكان والمحيط بشكل عام. وعلى مدار أكثر من أسبوعين، تحوّلت ورشة "الإبداع" إلى مزارٍ لطلبة وأساتذة وموظفي الجامعة. لقد تقاطر إلى المكان، وعلى مدار الساعة، الزوار والفضوليون المندهشون، ولكنْ الفرحون أيضاً لمشاهدة من يضعون سطراً في تاريخ هذه الجامعة العريقة.
حققت هذه الورشة الإبداعية أكثر من هدف في آن واحد. فمن خلال هذا العمل الإبداعي، استطاع الطلبة توثيق الكارثة التي حلت بأشجار الجامعة وارفة الظلال، برائعة فنية. فبدلاً من أن تذهب هذه "الحطبات" إلى مواقد النار لتدفئ الناس، بعثت الدفء والروح في المكان. لا يقل أهميةً عن ذلك أن المثل الذي ضربه طلاب وطالبات كلية الفنون في المبادرة والإبداع والعمل الجماعي، هو مشهد لم نلحظه منذ زمن، أعاد ذاكرتي إلى محطة من محطات العمر الأحلى والأبهى، عندما كان طلبة قسم الاجتماع في سبعينيات القرن الماضي يقومون بتشييد المظلات في الشوارع، ومراكز التنمية.
بالصدفة البحتة، ومقابل الساحة التي أقيمت عليها هذه التحف المنحوتة على الخشب، يقع مُدرج سمير الرفاعي الذي سيبقى الأكثر حضوراً في ذاكرة الطلبة بموقعه المتوسط داخل الجامعة، وشاهداً على إبداع جيل آخر في مجالات الأدب والشعر والمسرح، عندما كانت الجامعة تعج بالطلبة المبدعين شعراً وأدباً ومسرحاً، ما أزال أذكر منهم: زهير النوباني، وأشرف أباظة، وعيسى سويدان، ومجد القصص، وحاتم السيد، وقمر الصفدي، وآخرون غيرهم.
لم يكن الإنجاز الذي قام به طلبة الفنون ممكناً من دون دعم وتشجيع عميد الكلية د. كرام النمري وزملائه في الكلية، والفنانة سامية الزرو. فبحكم مكان عملي الذي يطل على ذلك المكان، كنت أشاهد، وأحياناً ألتقي، الأساتذة وهم يقفون مع طلبتهم يوجهونهم ويشجعونهم. وتقتضي دواعي الإنصاف الإشادة بالأستاذ الدكتور اخليف الطراونة رئيس الجامعة، الذي يولي التوثيق في كل شيء أولوية دائمة. وهو لم يكن بعيداً عن كل هذا؛ فقد شاهدته في ورشة النحت في يوم العطلة الرسمية بداية الأسبوع، يحتسي الشاي مع الطلبة ويحاورهم ويناقشهم، ويحيي حماستهم وهم يجسّدون ما يجول في خاطرهم عبر منحوتة فنية رائعة.
المجتمع الإنساني يتقدم من خلال الإبداع والابتكار اللذين يقوم بهما الأفراد والمؤسسات. وفي المجتمع المعاصر، شكلت الجامعات الحاضنة لهذه الإبداعات والابتكارات التي تساهم تدريجياً في الولوج إلى عصر الحضارة. والجامعة الأردنية شكلت الحاضنة الأهم، والمؤسسة الرائدة. وبهذه الرائعة، تؤكد الجامعة أنها تستعيد روحها الأخاذة التي ازدانت بتشريف جلالة الملكة رانيا العبدالله المعظمة هذا المكان لتزرع شجرة، ولتضفي عليه رونقاً وبهاءً في احتفالات الجامعة بعيد الشجرة.

[email protected]

mousa_shtaiwy@