مبدعو "ترانزيت"!

فرح عارم لا يستطيع المرء وصفه، حلم تحقق، وأهازيج أردنية تراقصت في عيون مبدعين يفتخر بهم الوطن.. الجميع ينظر بدهشة لهم، والكل يعبر عن التقدير الكبير للفكرة والصورة والإنجاز، كنا في مركز المنافسة في حدث عالمي، واستطعنا أن نثبت بأننا كبار.

فاز الفيلم الأردني الطويل "مدن ترانزيت" بجائزة النقاد في مهرجان دبي السينمائي، وفتح مع هذا الفوز الكبير الباب لتساؤلات كثيرة حول أهمية أن تكون للأردن نافذة على الإنتاج السينمائي الحديث وسط حراك فني محلي يدعو للاهتمام بهذا الجانب لأسباب لها صلة وثيقة بإشراق صورة الأردن الحضارية.

هذه الجائزة التي حققها الفيلم أثبتت أن السينما ليست مجرد فكرة لنص يترجم إلى عمل إنتاجي يخرج بتقنيات عالية ليستمتع بها المشاهد فحسب، بل هي صناعة تكشف قدرة أبناء الوطن ومفردات الاتصال الجماهيري الراقية لديهم، حيث كان السؤال من الجميع، في المهرجان هنا في دبي، حول الأردن وطاقاته الفنية الإبداعية الكامنة.

الأردن بدأ منذ بضعة أعوام في استئناف ما قدمه جيل مؤسس في صناعة السينما منذ الستينيات، إذ راح من خلال إنشاء الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، يفتح بوابة واسعة للمؤسسات الوطنية لمد يدها في دعم الأفكار السينمائية التي تخرج من عقول وطاقات بشرية مبدعة في هذا القطاع ولتقدم منجزها في عالم الفن السابع.

الحلم ينمو يوما بعد يوم، عله يتحقق قريبا ويظهر للعيان في صورة نماذج قادرة على المنافسة كتلك التي شاهدتها مؤخرا في دبي، وجعلتني أرفع رأسي عاليا كأردنية أمام الفنانين والنقاد والإعلاميين العرب والاجانب من شتى بلدان العالم الذين أشادوا بتجربة "مدن ترانزيت"، رغم أن هذا الفيلم خرج بجهود فردية تطوعية، وبإمكانات متواضعة، وبلا دعم رسمي!!

الحالة التي أتحدث عنها ليست مرتبطة بفيلم بعينه، بل بحلم تحقق بالفعل وظهر جليا كنموذج رائع على قدرة المبدعين من أبناء بلدي على إنتاج سينما تستحق المشاهدة والدعم لقدرتها على المنافسة وسط كم كبير من الابداعات العربية والعالمية التي سبقتنا بسنوات طويلة في هذا المجال.

لذلك تستحق مثل هذه الجهود الدعم الذي لطالما نادينا به لسينما محلية راقية، ولتكن بمستوى المسؤولية الاجتماعية تجاه الابداع كما هو الحال عندما كنا ننادي بأهمية دعم مؤسسات الدولة لقطاع الثقافة، ووصلنا في هذا المجال إلى تحقيق أحلام كبيرة، فلماذا لا يتم اليوم تخصيص جزء من دعم الثقافة إلى التجارب السينمائية التي تنتظر تحقيق الحلم؟.

وإذا كان الحديث عن جهد وطني، فلا يجب، في حال من الأحوال، الإبقاء على الاجتهادات الفردية عند المبدعين في مجال السينما التي ترتقي لمستوى الصناعة وتعكس صورة مبدعيها، ولنا في الدول المجاورة مثال كبير على ذلك، حيث تحركت جهات عليا لقيادة دفة الإنتاج السينمائي وسخرت طاقات هائلة في هذا المجال لخدمته، وحصدت جوائز وحضورا في المحافل الدولية كافة.

السينما عندما انطلقت في دول الجوار لم تكن لأجل الفن فقط، بل كانت في سبيل خدمة مصالح الدولة في صورتها التواصلية مع العالم، وتمكنت فيما بعد من إثبات قدرتها على دعم الاقتصاد والاستثمار، الذي كان وما يزال القلق الأكبر للدول.

من هنا، يكون الحديث اليوم عن دعم وطني كبير لنص ورؤية وإنتاج، لكن في المستقبل القريب سيتحول الحديث إلى صناعة تتصل بالاستثمار والاقتصاد، وتطوير مدخلات الانتاج في البلد بأسلوب استثنائي ومتقدم.

الفنان الأردني يحتاج إلى ثقة كبيرة من القائمين على صناعة القرار، لكنه لا ينتظر ذلك جالسا من دون أن يتحرك لينتزع هذه الثقة، والمثال يأتي من خلال الجهد التبرعي والتطوعي الذي قدمه أبطال فيلم "مدن ترانزيت"، حيث عملوا من دون أجر ليحققوا حلما لطالما راودهم.

ولكن إلى متى يمكن أن يبقى الفنان الأردني ينتظر هذه الثقة من الجهات القادرة على دعمه، في ظل القبول الكبير الذي يلقاه هذا الفنان في الدول المجاورة؛ حيث يمكن بسهولة ألا نجده مستقبلا إذا ما تأخر القرار بتقديم الدعم الضروري لصناعة السينما الأردنية.

الاستثمار في الفنان الأردني استثمار حقيقي بالمستقبل، ولا يمكن أن يختلف اثنان على أن هذا الفنان نموذج واقعي للطاقات البشرية الكبيرة في بلدنا.

اضافة اعلان

"مدن ترانزيت" لاسمه دلالات كبيرة وعميقة. فهل نلتقط الرسالة ونسارع إلى دعم الفنان والإنسان المبدع في بلدنا، أم نجعل مدننا وبلادنا محطات ترانزيت تقذف بنا إلى اللامكان.. وإلى المجهول؟!

[email protected]