متسولون مخادعون وأثرياء!

فريهان الحسن

رأيته يجلس على طرف الرصيف بثيابه الرثة ووجهه المتشح بالسواد، وملامح البؤس والأسى والضياع تظهر واضحة على ملامحه الصغيرة، ما جعلني أشفق عليه، وأفكر بطريقة أمسح بها حزن هذا الطفل.

اضافة اعلان

كان يبكي بحرقة على ناصية أحد شوارع عمان، والألم يعتصر قلبه، وهو ينظر إلى علب العلكة الصغيرة، التي يبيع منها وهي مترامية أمامه ومتناثرة تحت أقدام المارة وعجلات السيارات بطريقة مأساوية.

وفي محاولة سؤاله عن سبب حزنه، لم يجب إلا بمزيد من البكاء، وبعد هدوء لم يتجاوز إلا لحظات، أخبرني بأن أحد المارة قام بضربه ورمي علبة العلكة خاصته، لأنه ألح عليه أن يشتري منه.

لم يكن في وسعي، آنذاك، سوى محاولة تعويضه بشيء بسيط من ثمن العلكة التي تناثرت أمامه، والغيظ يملؤني من ذلك الرجل الذي سمح لنفسه أن يهين كرامة طفل مسكين، ويكسر قلبه من دون أدنى التفاتة لجوْر الأيام التي أدارت ظهرها لطفل كان من المفترض أن يلهو مع أقرانه في مثل هذا العمر!

وشاءت الصدفة أن أكون في مكان قريب من الشارع الذي التقيت به هذا الطفل لأول مرة؛ لأشاهده بالحالة نفسها التي رأيته فيها آنذاك، فوقفت أراقبه، ولمحته يستجدي الناس بالمشهد التمثيلي ذاته، وقد أدى دور المسكين بتفوق وإبداع؛ لأكتشف في تلك اللحظة، بأنه أسلوب حديث للتسول وحيلة مبتكرة لجني المال باستجداء عواطف الناس!

طرق ملتوية وحيل كثيرة يعمد الى استخدامها أطفال لكسب عطف المارة، فمنهم من يلجأ إلى سلاح الدموع، ليظفر بالتضامن معه قلبا وجيبا، ما يفتح تساؤلات عديدة حول الدور الذي يمارسه أبناء البراءة؛ فهل هي تصرفات طفولية فطرية، أم تختبىء وراءها عصابات تغتال الطفولة فيما يرقى إلى محاولات الاتجار بالبشر؟!

ولا يقتصر الأمر على عصابات تتحكم بهم وتنتهك طفولتهم وتضعهم تحت مظلتها، كونهم لقطاء أو أيتاما أو محتاجين؛ فوجود طفل ضمن أسرة مفككة ومشردة يحكمها الضياع أو في ظل أب أو أم فاقدي الاحساس بالمسؤولية وعديمي الرحمة، أمر يدفع الأطفال لامتهان التسول، ولعله أهون الشرور!

فكثيرة هي الوسائل التي تتبعها عصابات تمارس التسول بتنظيم متقن لتستجدي عواطف الناس في الحصول على المال؛ فمنهم من يقف بقرب جامع ما، مستعرضا أمراضه ليأخذ من الناس ثمن عطفهم عليه، وغيرهم ممن يزحف على الأرض مقطع الرجلين، ويبعث في النفس الريبة والخوف، وأكثر من ذلك من هم مستعدون بأن يشوهوا قطعة من جسدهم في سبيل أخذ المال.

ولأن ظاهرة التسول تخريب للمجتمع بشكلها اللاحضاري ومظهرها البعيد عن الإنسانية، فينبغي أن يكون هناك توجه جاد لمواجهتها، وإيجاد سياسات حكومية حقيقية لمحاربتها بأشكالها كافة، فضلا عن الحاجة الماسة لمزيد من المؤسسات التي ترعى الطفولة، حتى لا يكون مصيرهم أرصفة الشوارع، وتحت عجلات السيارات.

والدور هنا لا يقتصر على وزارة التنمية الاجتماعية، التي تحاول جاهدة القضاء على ظاهرة التسول، فنحن بحاجة إلى تكاتف مجتمعي من قبل المدارس والجامعات والأسر، كما أن هناك مسؤولية كبيرة على الأفراد الذين يشفقون على المتسولين ويمنحونهم المال، فهم بذلك، من غير قصد، يساهمون بطرق غير مباشرة بمضاعفة ثروتهم من خلال حيل تضرب على وتر العاطفة، وليس أدل على ذلك من قصة أحد المتسولين الذي دُفعت كفالته 100 ألف دينار، في دلالة بسيطة على أنه وعصابته "أغنى منا جميعا"!

[email protected]