متى نتحرر من "الصندوق"؟

بعد تدني احتياطات المملكة إلى مستويات مرعبة في الأزمة الشهيرة العام 1988، تم تعويم سعر صرف الدينار في تشرين الأول (أكتوبر) من ذاك العام، ما أدى إلى فقدان العملة نصف قيمتها لمدة ثلاثة أشهر فقط؛ إذ تم تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي في شباط (فبراير) 1989، وبعد ذلك ربط الدينار بسلة من أسعار العملات الأجنبية الأخرى، في مقدمتها العملة الأميركية.اضافة اعلان
تلك اللحظة المفصلية في عمر الاقتصاد الأردني، كانت لها تبعات صعبة على استقلالية القرار الاقتصادي للمملكة في عقود لاحقة. وفي مقدمة هذه التبعات علاقة مفتوحة مع صندوق النقد الدولي، بدأت في نيسان (أبريل) 1989، سعت من ورائها المملكة إلى الحصول على حسن سلوك من "الصندوق" كي تواصل الحصول على قروض.
أنهت الحكومات المتعاقبة سلسلة برامج حملت اسم "التصحيح الاقتصادي"، لكنها كانت تستهدف الحصول على مزيد من القروض الخارجية. وتحرر الأردن نظريا من العلاقة مع "الصندوق" أواخر العام 2004، بعد أنهى متطلبات عديدة طيلة السنوات الخمس عشرة التي سبقت ذاك العام. لكن الفترة التي أعقبت ذلك كانت فاشلة اقتصاديا. إذ منيت البلاد بعمليات خصخصة لم تغير في المشهد الاقتصادي شيئا، بل أفقدت الدولة موجودات كبيرة. ثم تحكمت طبقة من تيار اقتصادي كان يتعامل مع الدولة وكأنها شركة، حتى عدنا إلى مزيد من برامج ووصفات "الصندوق"، التي ألزمتنا بسياسات يدفع ثمنها المواطن على امتداد السنوات العشر الماضية.
للفشل ملامح لا يمكن للعين أن لا تراها. فعشية نيسان (أبريل) 1989، كانت مديونية المملكة بحجم 11 مليار دولار؛ وهي اليوم، بعد مضي 37 عاما على العلاقة مع "الصندوق"، تخطت 35 مليار دولار. وما تزال الحكومة تبحث عن طريق لإقناع إدارة "الصندوق" بقدرتها على مواجهة التحديات، حتى توقع معه برنامجا "للإصلاح الاقتصادي" للسنوات الثلاث المقبلة، والهدف الأكثر أهمية بالنسبة للحكومة هو في البحث عن مزيد من الديون.
جل ما فعله كثير من أعضاء "النخبة" الاقتصادية التي تسنمت مواقع المسؤولية لنحو ثلاثة عقود ونصف عقد مضت، هو إغراق الدولة بالديون لتكبير القطاع العام، وربط الاقتصاد الوطني بـ"خبراء دوليين" في صندوق النقد ومؤسسة التمويل الدوليين، وتكريس هذه التبعية على حساب المستهلك الأردني الذي تحمل ارتفاعات أسعار السلع الأساسية وكل القرارات غير العادلة التي اتخذتها بحقه الحكومات.
في الأثناء، لم نتمكن من بناء اقتصاد إنتاجي، بل استمرت السياسات بتوسيع دائرة الاقتصاد الرعوي وكأننا دولة نفطية أو لا مشاكل لديها على صعيد تأمين مستلزمات الطاقة، رغم أن العديد من دول العالم تخلصت من أعباء الديون بتحقيق نمو متدرج متصاعد، بالاعتماد على تعزيز الإنتاجية في أوساط العمالة وفي أفكار الشباب. معظم المسؤولين السابقين؛ من رؤساء وزارات ووزراء مالية وأعضاء في الفرق الاقتصادية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، يتحدثون في ندوات ومحاضرات لا تقنع رجل الشارع بعدم مسؤوليتهم عن المديونية والإخفاقات المتراكمة والعلاقة مع "الصندوق"، وعن كل هذا القلق الاقتصادي الذي لا يُنسب إلى أحد، ولا يتحمل مسؤوليته أحد، لاسيما من أولئك الذي يفكرون داخل الصندوق فقط، فلا جرأة لديهم للخروج منه!