مجرّد دردشات مريرة!

تزايد حالات الانتحار بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة، يدفع إلى التفكير بصورة معمّقة أكثر في الأسباب الكامنة وراء ذلك، بخاصة في مجتمع محافظ تقوم ثقافته الدينية على "تحريم الانتحار" واعتباره قتلاً للنفس بغير حق؛ فهل ما يحدث يعكس تحولاً جوهرياً في الثقافة الاجتماعية، أم أنّه استجابة مباشرة لضغوط مجتمعية، على الأغلب ذات طبيعة اقتصادية، مرتبطة بالبطالة وانعدام فرص العمل والضغوط المالية على شريحة اجتماعية واسعة؟اضافة اعلان
على كلّ الحالات، من يعاين معدل الانتحار والقصص التي نواجهها يومياً، والتحولات في طبيعة الجرائم والتحولات الاجتماعية وانتشار المخدرات، والفجوة الطبقية، وانتشار التكنولوجيا الذكية بصورة عارمة، حتى أصبحت في متناول الأطفال الصغار، تحمل في داخلها معالم ثقافة جديدة وتحولات كبيرة، تتزاوج مع تحولات موازية لسياسات الدولة بالتخلي عن التوظيف والسياسات الرعائية، والانتقال إلى السياسات الليبرالية، والاعتماد على القطاع الخاص لتوفير الوظائف، كل ذلك يعني أنّ الحياة المتسلسلة الهادئة لشريحة اجتماعية واسعة، من المدرسة إلى الجامعة ثم مؤسسات القطاع العام والدولة، أصبحت غير متوافرة، وعلى الشباب الصراع مع الظروف الاقتصادية من أجل تأمين أقساطهم الجامعية، ثم الحصول على فرصة عمل، تعتمد على قدر كبير من التنافس والإمكانات!
إذاً، المجتمع الأردني يشهد تحولات اجتماعية وثقافية ونفسية عميقة، بفعل العوامل السابقة. ومن الضروري أن تترافق مع بناء مقاربة إرشادية منهجية من قبل العلماء والمتخصصين، وحتى الإعلام، للتعامل معها والإجابة عن أسئلة عديدة أصبحت مطروحة؛ كيف نتعامل مع الضغوط المالية الكبيرة، ونتكيّف معها استهلاكياً؟ ما هي أولويات المواطنين من الدولة؟ كيف نتعامل مع الانعكاسات الاجتماعية والثقافية لوسائل التواصل الاجتماعي، بخاصة ضمن نطاق العائلة؟ كيف يمكن اكتشاف إرهاصات التحولات النفسية المقلقة نحو الاكتئاب، والتطرف، والتفكير في الانتحار، وتعاطي المخدرات في المدارس والجامعات؟ ما هي الأعراض والعلامات المرتبطة بتلك التوجهات لدى الشباب؟
هناك علم مهم وأساسي في الطب وفي الحياة الاجتماعية اليوم اسمه "الصحّة النفسية" ما نزال غير معترفين به في الأردن؛ إذ ما يزال عدد الأطباء النفسيين الأردنيين المتخصصين الذين يزاولون المهنة 40 طبيبا فقط، لأحد عشر مليون إنسان (مواطنين ولاجئين وعاملين) يقيمون في البلاد، بينما في كلّ من إسرائيل وتشيك، اللتين يبلغ عدد السكان في كل منهما 6 ملايين نسمة، هناك قرابة 1200 طبيب نفسي ممارس. ذلك بالرغم من كل ما تحدثنا عنه من تحولات اجتماعية وثقافية وانعكاسات نفسية، ومعدلات الانتحار والمخدرات والبطالة والفقر والتطرف، التي تمثّل عموماً ضغوطاً كبيرة على السكان.
صحيح أنّ ثقافتنا الاجتماعية تتعامل بحساسية وحذر شديد مع "الطب النفسي"، وكأنّه مرتبط فقط بحالات معينة، مثل الجنون والأمراض النفسية التي وصلت إلى مرحلة متقدمة، لكن من الضروري أن نغير هذه النظرة ونعيد الاعتراف بأهمية العلاج النفسي، بداية من قبل الدولة في التعامل مع الحالات السابقة، وتشجيع الجامعات والمواطنين على "سدّ النقص" الحالي!
بالتزاوج مع النقص الحادّ في المرشدين النفسيين والأطباء المتخصصين، لدينا قصور مرعب وفظيع في الدراسات الاجتماعية الدقيقة التي ترصد هذه الظواهر وتحلل العوامل الكامنة وراءها وتضع دراسات دقيقة وتوصيات. وهنالك قصور أكبر في جسور التواصل بين الدولة والباحثين والمتخصصين في هذه المجالات، فيما تضم أغلب الجامعات الأردنية أقساماً للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وآلافاً من الطلبة، وعدداً كبيراً من الأساتذة، لكن الإنتاج المعرفي المفيد في التعامل مع ما يحدث يكاد يكون "عملة نادرة"!