محاولة انتحار

الطريق إلى العبدلي مزدحم بالسيارات والمارة، رغم أنه يوم جمعة. أليس ذلك غريباً؟! هل يمكن أن يخطر ببال المرء أن ثمة فتاة تقف على حافة سطح عمارة من عشرة طوابق، وتخطط لرمي نفسها أرضاً لتموت منتحرة، فيما الجمهور العريض واقف يتفرّج، متسبباً بتعطيل المرور؟

اضافة اعلان

بالطبع لا! ما يمكن أن يظنه المرء، وهو يلمح سيارات الإسعاف والإطفاء من بعيد، أن ثمة حادث سير عنيفا، لا سمح الله، أو حريقاً هائلاً، لا قدّر الله، حتى إذا بلغ بؤرة الأزمة، وجد الناس يتبادلون الضحكات وهم ينظرون إلى "فوق"، فيما تولّى بعضهم تصوير المشهد المثير بكاميرا تلفونه الخلوي.

ما الذي كان يريده الجمهور الغفير يا ترى؟ ذلك هو السؤال الذي استوقفني، أكثر مما استوقفني السؤال الطبيعي في تلك اللحظة، الذي يُفترض أن يدور حول دوافع الفتاة للانتحار. ليس السبب أني أرى ما لا يرى الآخرون، لا سمح الله، بل لأنني كنت مستعجلاً في الوصول إلى العبدلي، وقد أربكني الجمع وصادر وقتي من دون سبب مقنع.

حقاً: ما الذي كان يريده ذلك الجمع المتجمهر حول المشهد المأساوي المؤسف؟ ثم ما دلالة تعامل الحاضرين مع الحدث على أنه "فرجة"، وأمر مسلٍ، يتفوق حتى على استغلال الطقس الدافئ والشمس المشرقة للتنزه والترويح عن النفس؟!.

ليس ثمة دلالة، بالنسبة لي، سوى ما تؤشر عليه الحالة من عمق أزمتنا الثقافية، ومن حاجة مجتمعاتنا، كما قلنا غير مرة، لتنمية ثقافية حقيقية، تُعنى بمنظومة قيمها التي تصيغ سلوكها. كان يمكن للمشهد أن يكون أكثر معقولية، لو أراد الناس من تجمهرهم الحيلولة دون وقوع الانتحار، أو المساهمة في مساعدة رجال الأمن على مهامهم، لكن الحقيقة أنهم كانوا يعيقون سير العمل، ويضفون على المشهد المأساوي مزيداً من "الإثارة" المفترضة، كتلك التي يوفرها الحضور الجماهيري الهائل للأحداث الرياضية.

ثم ما الذي كان يدور في خلد تلك الفتاة، يا تُرى، وهي ترى بعينيها كل ذلك الاهتمام المفاجئ بها؟ لو علمت من قبل أنها مهمة إلى هذا الحد، ما فكّرت بالانتحار أبداً، فدافع التفكير بالانتحار، يتمحور من دون ريب حول الإحساس بالهامشية واللاجدوى، والعزلة التامة عن المجتمع وبُناه وعلاقاته. لعلها اكتشفت في اللحظة الأخيرة، بينما حاولت الإفلات من يد رجل الأمن ورمي نفسها إلى الشارع، أن ذلك التجمهر لا يصدر عن اهتمام بها، بل عن احتفاء بالموت المنتظر، واستعداد لتبادل الحكايا والقصص والأخبار حول الحادثة في اليوم التالي، مع تضخيم تلك الأخبار طبعاً، وتغليفها بمزيد من إثارة لم تقع، كعادة مجتمعاتنا التي تسعد بترويج الإشاعات والتباهي بإيراد أخبار لا مصدر لها، كي يُشعر الواحد نظراءه بأهميته ومركزيته في محيطه.

قطْع المسافة بين دوار المدينة الرياضية ودوار الداخلية، احتاج نصف ساعة من الوقت. المسافة ذاتها لا يلزمها أكثر من عشر دقائق في صباح الأحد المزدحم. ثمة إذن أزمة في الإحساس بالمسؤولية العامة، تتجلي في عدم احترام حق الآخرين في استعمال الشارع العام من دون تعطيل. ليست تلك الحادثة هي وحدها التي تؤشر على هذه الأزمة، ففي معظم أيام الأسبوع يعطل الراغبون ببيع سياراتهم، السير في الشارع الخلفي للحراج الواقع على حافة منطقة المدينة الرياضية، حتى يلزم المرء أن يمضي ربع ساعة، وهو يقطع مسافة لا يزيد طولها عن 500 متر. وفي أيام الخميس، لا يفاجأ المرء كثيراً حين يجد أن ثمة من استولى على الشارع العام لإقامة حفل بمناسبة زفافه! وهكذا، فإن البحث عن التسلية يتفوق على الشعور بالانتماء للمجتمع.

يا لها من مهزلة، تفوق مهزلة إقدام فتاة عشرينية على الانتحار!.

[email protected]