محلول الذوق الرفيع!

أنتَ اليومَ لستَ في حالَةٍ طبيعيَّةٍ..؛ ذهبْتَ إلى الصيدليَّة لشراءِ دواءٍ. سألتكَ الصيدلانية المتدرِّبّةُ عن اسمهِ، فكتبتَ لها أحرفاً لاتينية لا تدلُّ على شيء، وعن لونِهِ فمزجْتَ تركيباتٍ غريبة لم تعط لونا محدَّداً، وعن شكل علبته، فرسَمْتَ لها في الهواء الأشكال الهندسية التي تعلمْتَها ولم يكن واحداً منها. عجزت الفتاةُ عن تحديد ماهيَّةِ ألمِكَ، فطلبَتْ منكَ أنْ تذكرَ لها الأعراضَ التي تشكو منها، ثمَّ تعطيكَ دواءً تقريبياًّ!اضافة اعلان
قلتَ إنَّكِ صحوتَ عند السادسة صباحاً، وأخبرتَها أنَّه ليس هذا الموعد المفترض أنْ تنهض فيه، لكنه موعدٌ ثابتٌ لمنبِّه إجباري يصدر من سيارة الشحن الكبيرة لجاركم، التي يهدرُ محرِّكها في نصفِ ساعةِ الإحماءِ في منطقة سكنيَّةٍ متلاصقَةٍ، قبل أنْ يصعدَ سائقها الهَرِم وراء المقود ويطلق الزامور المضاف إليه غلاظة على الصوت الطبيعي الخشن له. تخرجُ من الشرفة لترى الأمرَ الملحَّ الذي استدعى كلَّ ذلك القلقِ الصوتيِّ، فتعرف أنَّ الرجلَ العجوز يستعجل حرمه العجوز بتحضير الشاي بالنعناع!
نجَحْتَ في كظم غيظكَ، وزدْتَ النبيِّ صلاةً، وخزيتَ الشيطان أصل البلاء، وقادتكَ حالة التسامح لأنْ تتورَّطَ في الاستحمام قبل أنْ تتأكَّدَ من توفر المياه التي ستعرفُ عما قليل وأنتَ مغطَّى بالرغوة، أنَّها أُهدِرَتْ من قبل سكان الطابق الأرضيِّ في جلي مخلفات وليمة عائلية ممتدة احتفاء بطهور الولد الرابع بعد العَشرة!
تستعينُ بالحَوْقلة لتأمين خروج آمن من البيت بدون التعرُّض لإصابة صحيَّةٍ طارئة، بعد الضغط اللحوح لابن الجيران العُلويين على جرس البيت، واعتقادكَ أنَّ ثمة كارثة ستدخلُ بمجرَّدِ أنْ تفتحَ البابَ عند السابعة صباحاً، ليتقزَّمَ الأمرُ إلى إعادَةِ صحْنٍ فارغٍ، وطلَبِ حبَّة "بندول" باشتراط أنْ تكونَ "اكسترا"!
خرجتَ من البيت، وكانت بِركَةُ ماءٍ صغيرةٍ مجهولة السبَبِ، في منتصف الشارع المهترئ، ثمَّ وأنتَ تمشي حَذِرا، حرصاً على ثياب العمل الجديدة، تمرّ سيارة "تاكسي" صفراء، وترشقكَ بالماء الذي له لونٌ وطعمٌ ورائحةٌ، ولما تُبْدي حركة احتجاج سلميَّةٍ من كفِّكِ، تتوقَّفُ السيَّارة على بعد 50 مترا منكَ، ويترجَّلُ منها رجل ضخم، سيشتم السيدة والدتكَ المُدرَج اسمها على جدول الحجاج هذا العام!
تركبُ الباصَ، وتجلسُ بجانبِ رجلٍ كهْلٍ رثِّ الهيئة انشغَلَ طوال الطريق بدسِّ أصابعه بفتحَتيْ منْخَريه الواسعتَيْن، ثمَّ قبل أنْ ينزل منه ماشياً على حذائك اللامع، يُخرجُ قطعَة "شوكولاتة" ذائبة من جيبه الضيِّقِ، يستخلِصُها من ورَقِها بعد جُهْد بأصابِعِه التي تذكرُها جيِّدا، ويَقسم القطعة إلى نصفين متساويَيْن، ويُقسم يمين طلاقٍ أنْ تشاركه بها!
تدخلُ إلى العمل متوتِّراً لتأخركَ ساعة عن موعد الدوام الرسميِّ، وقبل إجراء إثبات الحضور، يستوقفكَ الساعي ليخبركَ بمعلومَةٍ صغيرَةٍ استجدَّتْ في العمل أثناء غيابكَ ليومَيْن، تهزُّ رأسك بأنْ "عُلم"، ثم يروي لك حادثةً قريبة الشبه حدثتْ في صيف العام 1968، وأخرى بتفاصيل إضافية في العام 1988. ويستحلفكَ أنْ تسمَعَهُ حتى يُحصي "الظروفَ الموضوعية" التي طرأتْ في عشرين عاما!
في العمل أيضا تشعرُ بتعبٍ بسيط، فتقرأ زميلتكَ الأرملة وهي تجلس على مكتبكَ، ملامح التعب على وجهكَ، ثمَّ تعطيكَ احتمالاتٍ لثلاثة أمراض مستعصيَةٍ. تخرجُ من المكتبِ مفزوعاً فيصادفكَ موظفٌ فائضٌ على حاجَةِ العمل، يقترحُ عليكَ خطواتٍ جديَّة لتبديدِ الضجَرِ: الزواج من امرأةٍ ثانيَةٍ، الانشغالُ بشراءِ سيَّارةٍ جديدَةٍ، سفرٌ سريعٌ إلى "طابا"..، ثمَّ يذكِّرُكَ بعشرة دنانير اقترضتَها منه قبلَ شهرَين!
طلبتَ طعاماً يكفي لشخص واحد فدخَلَ عليكَ زميلٌ وتناولَ نصفه "على عشم"، ثمَّ دخَلَ زميلٌ آخر فدعوتَه إلى الطعام بكرمِ حاتم الطائي، لكنَّه اعتذَرَ بملامح القرف: "شكرا لقد تقيَّأتُ قبل قليل"!
عدْتَ مبكرا لتخلدَ إلى النوم وترتاح، فصادفتكَ خيمة عرس أغلقت الطريقَ الوحيدَ المؤدِّي إلى بيتك. مشيتَ على أقدامكَ إلى البَيْت، ولم تنم حتى اطمأنَّ أهل العريس وأصدقاؤه، عند الثالثة صباحاً، على حُسْن أدائه!
عرفتْ الصيدلانيَّةُ المتدرِّبة طلبكَ: "أنْت تحتاجُ إلى محلول الذوق الرفيع". نظرتَ إليها باستعطاف شديد أنْ تعطيكَ علبَة منه، لكنها استدركتْ بأسف بالغ: "هذا المحلول غير متوفر لانعدام الطلب عليه"!

[email protected]