محنة اليونسكو أم محنة السياسة الدولية

التحديات التي تواجهها اكبر منظمة دولية ترعى الثقافة والعلوم والتعليم (اليونسكو) تشير بوضوح الى حجم الأزمة الكبرى التي تواجه الثقافة الإنسانية بعدما باتت السياسة والمال وماكنات التزييف تمسح ذاكرة البشر والحضارة، تتجاوز الأزمة الانتخابات الحالية والشعارات التي ترفع بأن المال يشتري الحضارة والتاريخ في إشارة الى الاتهامات التي توجه لمرشح قطر الذي حصد أعلى الاصوات في الجولتين الاولى والثانية، كما تتجاوز الانسحاب الرسمي للولايات المتحدة من المنظمة الدولية، بل تلفت الانتباه بقوة الى حجم الأزمة التي تطحن بالسياسة الدولية وحجم احتقارها للثقافة الانسانية. اضافة اعلان
ليست هذه المرة الاولى التي تنسحب فيها الولايات المتحدة من اليونسكو حدث ذلك في العام 1984 في عهد السنغالي أحمد مختار إمبو، الذي طالب بوقف الهيمنة الدولية وبنزع الاسلحة النووية، وأوقفت الولايات المتحدة مساهمتها في موازنة اليونسكو التي تقدر بنحو 20 % وعادت عن قرارها في العام 2003، وعادت مرة أخرى لتجميد مساهمتها المالية في العام 2011 على خلفية حصول فلسطين على العضوية الكاملة في المنظمة لتكون أول عضوية كاملة تحصل عليها في منظمة أممية، في كل مرة تعود الولايات المتحدة الى اتهام اليونسكو بتسييس عملها او بسوء إدارة أعمالها ولأسباب مختلفة لم تسدد كل من بريطانيا واليابان والبرازيل حصصها في ميزانية العام 2017.
واذا ما نظرنا للاسباب المعلنة التي دفعت الولايات المتحدة للانسحاب في المرة الاولى مقارنة بالاسباب الراهنة نجد الفجوة الكبيرة بين ما كان يعلن في السابق وما يعلن اليوم، فحسب الخطاب السياسي في الثمانينيات فإن احمد مختار امبو ذهب نحو تسييس المنظمة الدولية بطريقة تعمل ضد مصالح الولايات المتحدة، اليوم لا تتورع الاخيرة عن الإعلان رسميا انها لا تعترف بأي معايير للعضوية او اي معايير للانضمام لقائمة التراث العالمي او اي إدانة لإبادة الثقافات المحلية او الآثار الا وفق معايير سياسية تتفق وسياسة ومصالح اسرائيل قبل غيرها ولو كان ذلك على حساب سمعة الولايات المتحدة وتاريخها وانجازتها لصالح الحضارة الانسانية، وعلى حساب انجازات الشعب الاميركي ودعمه لحقوق الانسان ومناصرته للحق في تقرير المصير الذي يفتخر الشعب الاميركي بأنه اول من صك هذا المفهوم ودافع عنه في الربع الاول من القرن العشرين. وكانت الولايات المتحدة قد فعلتها قبل ذلك حينما تمنعت عن دفع حصتها في موازنة اليونسكو خلال العامين 1975 - 1976 بعد قرار المنظمة الدولية الشهير في العام 1975 باعتبار الصهيونية شكلا من اشكال العنصرية، وفي جميع هذه المحطات كانت الولايات المتحدة تسعى الى تسييس المنظمة التي تعنى بالثقافة والعلوم والتراث وتحرص على الحريات وحقوق الانسان.
في جميع معارك اليونسكو التاريخية كانت السياسة والاموال هما المحركان الاساسيان في ادارة شؤونها وليست السياسة والاموال وليدة هذه اللحظة الراهنة؛ علينا ان نتذكر انه في العام 1974 حينما وصل العمل الدبلوماسي العربي قمته بعد حرب تشرين وانتزع القرار التاريخي باعتبار الصهيونية حركة عنصرية والذي تم التنازل عنه لاحقا وبعد أن أوقفت الولايات المتحدة مساهمتها قامت دول عربية بتعويض النقص الحاصل في موازنة اليونسكو بالمنح والقروض الميسرة.
الأزمة السياسية الدولية الراهنة تفتقد للشكل وللون والروح؛ السياسة الدولية اليوم تعاني من سيولة عالية ومن براغماتية فجة ومن نمط من التسليع القبيح الذي يجعل دولا وتراثا حضارات وذمم الكبار والصغار قابلة للبيع والشراء، ما يجعل مهمة الثقافة وتراث البشرية صعبة وصعبة جدا لكنها مهمة نبيلة وعظيمة وسوف يذكر التاريخ هذه السنوات الصعبة وتتذكرها أجيال من بعدنا بتبصر وحيرة!