‘‘مخيطة عاشور‘‘.. معلم يحتضن ذكريات تشكلت منذ منتصف القرن الماضي- فيديو

جانب من مخيطة عاشور التي تأسست العام 1956 في السلط - (تصوير: ساهر قدارة)
جانب من مخيطة عاشور التي تأسست العام 1956 في السلط - (تصوير: ساهر قدارة)

تغريد السعايدة

عمان- في أزقة السلط، تزدان الشوارع بالمحال التجارية والمهن العريقة القديمة، التي تحاكي تراث الأردن وتاريخه، وتُظهر مدى اهتمام أهل المدينة بكل تفاصيل الحياة، ومنها الملابس والأزياء.اضافة اعلان
في الأردن، وبالسلط تحديداً، ذكريات ترسخت منذ خمسينيات القرن الماضي، لمن كانوا يرتادون “مخيطة عاشور” لأخذ مقاسات البذلة من قماش يتم استيراده خصيصاً من بريطانيا. كان الشباب يتباهون حينما يتوجهون لأعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم وهم يرتدون “بذلة تفصيل عاشور”.
تلك المخيطة ما تزال تمارس العمل ذاته وبالإبداع والاهتمام ذاتهما بالتفاصيل من خلال العاملين في المخيطة، وعلى رأسهم السبعيني فيصل عاشور الذي بدأ العمل مع شقيقه مؤسس المخيطة الثمانيني علي عاشور.
في المخيطة التي لا تزيد مساحتها على ستة عشر مترا مربعا، يصف فيصل عاشور بدايات المحل منذ العام 1956، وكيف توجه شقيقه علي إلى لبنان ليلتحق بأحد المعاهد التي يتدرب فيها على تصميم الأزياء والخياطة، ضمن أرقى الموديلات العالمية، ليعود إلى السلط ويفتتح المخيطة التي أصبحت ركناً ومعلماً من معالم مدينة السلط،. انطلق في عالم تفصيل “البدلات الرسمية واللباس العربي القديم”، ليكون الشقيقان مرفداً للأزياء في السلط، خاصة وأن البدلات الرسمية كانت آنذاك قليلة التواجد في المحال التجارية ولا يمكن الحصول عليها إلا من خلال التفصيل.
ويقول فيصل “إن المحل على الرغم من صغر مساحته، إلا أنه كان يضم في ذلك الوقت ثمانية عمال في الخياطة، وكان الزبون يأتي ويأخذ المقاس وخلال أيام تكون البدلة جاهزة، وكان التفصيل يُكلف الزبون 12 دينارا، ويتم تقسيط المبلغ على سنة كاملة، بمعدل دينار كل شهر، وله العديد من الذكريات مع عدد كبير من الزبائن الذين وصلوا إلى مناصب رسمية رفيعة، ولكنهم ما يزالون يخبئون الحنين والشوق لهذا المكان، و”ماركة عاشور””.
وما يميز البدلات الرسمية هو أن الخياط كان يطرزها من الداخل بعبارة “عاشور”، لذلك كان الشباب يتباهون بأنها خرجت من تحت أيدي الخياط والمصمم علي وشقيقه فيصل عاشور.
الأخ الأكبر بعد سنوات طويلة من العمل في الخياطة والتفصيل، ترك العمل في السبعينيات، ليبقى فيصل ثابتاً ومستمراً فيه لغاية الآن، ويقول فيصل إنه على علاقة متينة وقوية بعدد كبير من سكان مدينة السلط وضواحيها، وما يزال يبكي على رحيل بعضهم. يقول “لم تكن علاقاتنا بهم عابرة، بل قوية وميتنة وفيها من الأحاديث الجميلة والخاصة الشيء الكثير”.
وما كان يميز مخيطة عاشور كذلك أنهم بدؤوا بخياطة الملابس النسائية والفساتين، وطبق فيه عاشور كل ما تعلمه في أكاديمية التدريب في لبنان؛ إذ أنتج الكثير من الأزياء النسائية وبأجود أنواع الأقمشة التي تستورد وإكسسواراتها من بريطانيا، والطريف في هذا الجانب أن السيدة التي تأتي لتفصيل الملابس كانت تذهب إلى بيت عائلة عاشور، ووالدته كانت تأخذ المقاسات، وذلك حفاظاً على خصوصية المرأة، وهذا جعل المخيطة الملاذ الوحيد لسيدات السلط وضواحيها ومن مدن أردنية أخرى لتفصيل الملابس بأحدث الموديلات التي تتناسب مع كل فترة زمنية.
ويعتقد فيصل عاشور أن ازدهار مهنة الخياطة منذ تلك السنين، كان بسبب قلة المحال التجارية التي تبيع الملابس والبدلات الجاهزة، فلم يكن هناك سبيل للحصول على لباس رسمي أو عربي إلا من خلال الخياطة والتفصيل، ومع ازدياد عدد محال البيع “الجاهز”، كما يطلق عليها البعض، أصبح التفصيل أقل من قبل، ولكن ما يزال الكثيرون محافظين على اختيارهم لخياطة عاشور، على الرغم من أن التفصيل تحول من “12 دينارا إلى 75 دينارا”، ولكن هذا نظراً لاختلاف القيمة الشرائية للدينار، وارتفاع أسعار الكلف.
الآن، عدد العمال أقل في المحل، بعد أن كانت “العلية” تضم مجموعة من أمهر الخياطين في السلط، نظراً لأن العمل في التفصيل أصبح أقل، ولكن الخياطة على اختلافها مستمرة؛ حيث يعمل أبو أشرف، منذ العام 2011 في مخيطة عاشور، ويقول إنه يخيط كل ما يطلبه الزبون، حتى أبسط الأشياء، وهذا يساعد على المحافظة على المهنة التي تعد فناً أكثر منها خياطة عادية.
كما أن تطور ماكينات الخياطة كذلك ساعد على السهولة والسرعة في الإنجاز، ففي السابق، كما يبين فيصل عاشور، كانت ماركة “سنجر” من أشهر الماركات العالمية، نظراً لعدم وجود ماكينات أخرى، فقد كان الزبون يطلب تفصيل حزام للبدلة، ويقوم بعمله من خلال تفصيل القماش ووضع حشوة معينة فيه، ولم يكن لحزام الجلد مكان آنذاك، كما أن “السحاب الحديدي” لم يكن متوفراً، ويستعاض عنه بالأزرة البلاستيكية فقط.
“كانت الثقة موجودة بشكل كبير والرجل يتعهد بالدفع فقط مشافهةً”، يقول عاشور، فقد كان الكثيرون يُفصلون بـ”الدين” لا يوجد من يدفع مباشرةً، فكان قليلاً جداً ما يستخدم الكمبيالات للدفع نهاية الشهر، وهذا بنى جسور ثقة ومودة بينه وبين السكان، وما يزال الأبناء والأحفاد يأتون للتفصيل بالتوارث عن الأجداد والآباء.
وبين عاشور أن الكثير من المغترين يأتون أحياناً قاصدين زيارة المحل واستعادة الذكريات فيه، فلم يكن المحل تجارياً فقط بقدر ما ضم ذكريات جميلة، فقد كان العريس يأتي لتفصيل ملابسه ويقدم الحلوان للعاملين في المحل والموجودين من الزبائن، عدا عن ذكريات الأعياد والمواسم التي يُقدم فيها الزبائن على التفصيل للملابس الجديدة ومن مختلف الأعمار.
ولتميزه في تفصيل الملابس بشقيها “الحديثة والتراثية”، كان لمخيطة عاشور دور في تفصيل أزياء لممثلين في بعض المسرحيات التراثية القديمة والشهيرة مثل مسرحيتي “ولاد الحراثين” و”علي الشراري” اللتين قام بتأليفهما السلطي هاشم القضاة.
ومخيطة “عاشور”، كغيرها من محال السلط التراثية، تعد شاهدا على المدينة وتطورها ومسيرة التغيير التي حدثت منذ منتصف القرن الماضي، وما تزال تحتفظ بالمكان وبذكرياته وكل ذكريات الزبائن.