مخيم اليرموك له وجه


في اليرموك أحرقوا البيانو.. وأكلوا القطط.
عندما أخطأتُ في أحد مقالاتي وعلقت بسطرين أو أقل، على صورة فتاة نشرت على أنّها من قرية مضايا السورية، ونُشرَ معها صورة لفتاة تعاني الجوع والمرض، باعتبارها الفتاة ذاتها، واتضح أنّها ليست ذاتها، كان لا بد من كتابة مقال اعتذارٍ للقارئ. ثم وضعتُ الصورتين، ومعهما صورة ثالثة للطفلة ذاتها ببسمتها وزهوها، ومعهما المقالان، ضمن مادتي التعليمية في الجامعة، في مساق أساليب البحث العلمي، حتى تكون مثالاً عملياً على أخطاء التعامل مع المعلومات، حتى لو كانت صورة.اضافة اعلان
دخلتُ غزةَ قبل نحو عامين، فأخذني المضيفون فوراً، لأرى أماكن الدمار، ولكن الأنقاض لم تكن هناك. قالوا إنّ الجميع تعاون، بما في ذلك الأمم المتحدة، والأميركيون، والإسرائيليون، لإزالة أنقاض حرب 2014 سريعاً جداً، فلا أحد يريد رؤية وجه العدوان والدمار، ولكن هذا لا يعني إعادة الإعمار سريعاً.
قالت خديجة حباشنة، في فيلم "منهوب ومخفي"، عن الأراشيف الفلسطينية التي نهبها الإسرائيليون، بما فيها أشرطة غنائية وصور شخصية، إنّ الشباب الذين كانوا يصوّرون، أرادوا أن يكون لهم وجوه وحضور وذاكرة.
في سورية، الصعوبة مضاعفة، إذا ذكرتَ حصار المخيمات في لبنان في الثمانينيات، أو سألت عن تل الزعتر، ودور النظام السوري هناك، فأنت تثير "فتنة"، وتتحدث في أمر "غير أكيد"، وحالياً، هناك صعوبة في الوصول للمعلومة. وفي مخيم اليرموك، للاجئين الفلسطينيين، في دمشق، الذي تعرض في الأيام الفائتة، لموجة تدمير جديدة، الأمر أكثر تعقيداً، فالمهاجمون عدّة؛ من نظام وميليشيات تابعة، بحجة "تحرير" المخيم من الإرهاب، إلى الإرهاب الذي وجد فعلاً.
في الأصل، فإنّ المخيم، سجلٌّ يحفظ الوجوه والأسماء، فلشوارعه أسماء القرى والمدن المهجرة؛ لوبية، وصفد، وحيفا، والجاعونة، وفيه أسماء الضحايا، مثل شارع جلال كعوش.
قامت مؤخرا، صديقة إعلامية، بكتابة كلمة واحدة، على صفحتها على "فيسبوك"، هي "اليرموك"، وعندما تحولت التعليقات على الكلمة لمعركة، حذفت الاسم. ألا يجوز أن يكون للمخيم وجه؟!
أحد الوجوه التي وجدت طريقها للعلن، لأنّها سعت لذلك. هو أيهم أحمد، شاب من مواليد 1988، والده عازف موسيقي، تعلم البيانو في معاهد دمشق وحمص، كان يعد نفسه لمستقبل في العزف.
جرحت يده بشظية في "الحرب" ما أضعف فرصه كعازف محترف، ولكن ذلك لم يمنعه من العزف، ودفعه لتأليف وتلحين الأغنيات. كان يخرج أثناء الحصار، يضع البيانو الذي رسمت عليه نسخ من العلم الفلسطيني، بين الدمار. وغنى معه أطفال، "اليرموك اشتقلك يا خيا"، يُحيّون الصمود في غزة وحيفا، ويسألون الآخرين لماذا تركتم المخيم؟. يَجُر البيانو القديم، المدهون، على عربة بدائية يجلس على حافتها من دون كرسي. وفي مرة لم يكن معه من يغني، ركضت فتاة، وقالت أريد أن أغني، سألها أتحفظين الأغنية؟ وقالت نعم.
كان الكبار يعتبرونه مجنوناً يغني أثناء الحصار، ولكن الشباب والصغار، انضموا له، وللغناء؛ يقفون بهدوء والتزام، يغنون رغم الجوع والدّمار.
لما دَخلَت "النصرة" و"داعش" المخيم، صارت الموسيقى جريمة، فكّر بطريقة لإنقاذ البيانو، فأخرجه أثناء صلاة الجمعة، ظناً أن الشوارع ستخلو منهم، فوجده أحدهم على حاجز، ووبخه، وسأله ألا تعلم أن الموسيقى حرام، وسكبَ مادة للاشتعال، وحرق البيانو، ولكنه لم يقتله، ووالده، الذي كان يرافقه. وهناك قرر أيهم الخروج، من سورية، ووصل إلى ألمانيا في رحلة بالغة الصعوبة والتعقيد.
عدا يده الجريحة، فإنّ صوته ليس غنائياً حقاً، ومغني فرقتهم "شباب اليرموك" الأصلي، مختفٍ، ولكن أيهم يعوض ذلك بإحساسه في العزف والغناء، وفتح الغناء أمامه الإعلام ليروي القصة.
إذا كان هناك من شكك في حقيقة رواية أكل لحم القطط والكلاب في مخيمات لبنان في الثمانينيات، وفي جدية طلب فتوى أكل لحوم الموتى حينها. فإنّ أيهم يروي بالأسماء حالات من ماتوا في اليرموك جوعاً، ويخبر تفاصيل طبخ ورق الشجر، الذي اتضح أحياناً أنه سام، ويعترف أنّه قام بعمل "غير إنساني"، بحسب تعبيره، وأكل لحم قطة أثناء الحصار.
في غنائهم ابتعد أيهم والأطفال لسبب أو آخر، عن لوم الجلادين وعن تحديده، ربما خوفاً منهم، ولكنهم لاموا من لم يكترث للمخيم.