مذهل حقا

حسني عايش عندما رأيتها لأول مرة ذهلت من ضخامتها ومن نوع وكم فهارسها، فقلت في نفسي: هل كلفت الدولة أو الجامعة أو اليونسكو أو جهة ما فريقاً متخصصاً لكتابة تاريخ الطب الحديث في الأردن وفلسطين منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم؟ وبعد الاتصال مع المؤلف الأستاذ الدكتور كامل العجلوني لمعرفة من وراء هذا العمل الضخم كماً ونوعاً، تبين انه قام به وحده، وأنه استغرق اثنتي عشرة سنة منه لإصدار ثلاثة مجلدات ضخمة عن هذا التاريخ تستغرق عدة مواعين من الورق على الوجهين لاستكمال رسالته، وبدعم مالي من صندوق البحث العلمي والابتكار في وزارة التعليم العالي. المجلدات تأريخ وتاريخ معاً للموضوع لم يسبق لأحد أن قام بمثله في موضوع آخر وبهذه الموسوعية والشمول والدقة والإنصاف. ولحسن المصادفة فقد التقى انجازه ونشر مع مئوية الدولة الأردنية. قدم المؤلف للموضوع بتوطئة أو بنبذة تاريخية سياسية طبية تحدث فيها عن العناية الطبية المقدمة من قبل الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وحتى خروجها من البلاد، وأتى على دور الغرب الاستعماري وبريطانيا بالذات في تقسيم سورية إلى أربع دول وهي سورية والأردن وفلسطين ولبنان. وفي تاريخه للطب في الأردن وفي فلسطين بدأ بما كتبه الرحالة والمستشرقون عنه وما قدمته المؤسسات التبشيرية الأثنية والطائفية في البلدين. يندهش القارئ عندما يعلم عن وجود عشرات المستشفيات في فلسطين في ذلك الوقت، منها التابع لدولة أجنبية، أو لطائفة ما، أو اليهودية، أو العربية، بالإضافة إلى صورة لمبناها في بعض الأحيان. ولم يكتف المؤرخ الباحث الأستاذ العجلوني بذلك، بل استعرض تاريخ الصحة العامة وصحة البيئة، والمطاعيم وصحة الأمومة والطفولة والرعاية الصحية الأولية والثانوية والمعجزة الطبية الأردنية المدنية والعسكرية والخاصة، وانتهاء بمركز الحسين للسرطان، والمركز الوطني للسكري والغدد الصماء والوراثة، ومركز العلاج بالخلايا. كما لم ينس المرور على نقل الاعضاء والطب الشرعي والمختبرات الطبية والأطباء الأوائل والأواسط والمتأخرين بالاسم، وكذلك فعل بالنسبة للصيدلة، والتأمين الصحي وجمعيات الاختصاص، وكليات الطب في الأردن وفلسطين، بالإضافة إلى التمريض والصناعة الدوائية، وحتى البطالة الطبية. هذا التأريخ والتاريخ الضخم الذي لم يترك شاردة أو واردة ذات علاقة بالموضوع إنجاز شخص واحد موسوعي العلم والثقافة وقوي الإصرار والمثابرة. إنه كامل العجلوني ولا أحد غيره يستطيع ان يقدم على القيام بهذا العمل البحثي الأرشيفي المضني. كامل العجلوني - مع أنني لم أكن زميلاً له إلا قصيراً في مجلس التربية والتعليم وليس لي ولا لأحد من أسرتي علاقة عمل أو علاج معه - طبيب نادر في اختصاصه، ومفكر كبير قدير في قضايا أخرى، وناطق بليغ وصريح وعالي الصوت بالحقيقة. ولا عجب في الإشارة إليه بالبنان محلياً وعربياً وعالمياً، وانجز مائتين وستة وثلاثين بحثاً علمياً منشورة في أرقى المجلات العلمية في العالم. ومع هذا كان يجد الوقت لتأليف عشرة كتب أخرى في الفكر، والأديان، والعقيدة اليهودية، وشؤون المرأة، وحتى تاريخ بعض الجامعات الأردنية. ولا دهشة في اعتباره واحداً من بين أفضل اثنين في المائة من علماء العالم حسب دراسة سنغافورة 2020. أما عن عدد الجوائز والأوسمة والألقاب التي استحقها فهي كثيرة وهي نتيجة وليس هدفاً مسبقاً. لعل أهمها جائزة أفضل طبيب غدد صم في العالم من الجمعية الأميركية للغدد الصم العام 2008 . للأردن والعرب أن يفخروا بهذا الانجاز، وان يخلدوا صاحبه على مدى الزمن، وان كان يبدو صاحبه للناس الآن أنه شخص عادي مثل كل منهم، فهو واحد منهم ويرونه ويراهم ويلتقون به ويتحدث معهم ويتحدثون معه. لكنه سيصبح الأردني والعربي الشهير في نظر الأجيال المقبلة، كما هي الحالة مع كل شخص مميز مثله مثل ابن سينا، والفارابي، والرازي التي تتمنى لو عشت في عصره. ما جذب انتباهي ايضاً في المجلدات الثلاثة ان الأستاذ كامل العجلوني لم يسبق اسمه بحرف دال كما يفعل الذين يتسولون الشهرة والاعتراف بهم. وتلك سمة (بحذف الدال) لا يتصف بها الا العلماء الواثقون بأنفسهم والمعتمدون على عطائهم الذي يتحدث عنهم كما يفيد جاي بي. هاريسون في كتابه (Think, 2013). أما أجمل ما في الكتاب فهو هذا الاهداء: إلى روح والدي الذي علمني قول الحق، وأن لا أقول الا الحق، وأن لا أخضع إلا للحق، وأن لا أركع إلا لله.اضافة اعلان