مرابطون ومرابطات في الخليل

لا أجد كلمة أكثر دقة من "الرباط" لأصف مشاهداتي في الخليل السبت الماضي.
الصور التي تتزايد على شبكات التواصل الاجتماعي، لطفل أو امرأة أو رجل أعزل يتحدى جنديا مدججا، تراها في كل زاوية في الخليل. وهناك مشاهد كثيرة لا تلتقطها العدسة.اضافة اعلان
يمكنك رؤية أبو عنان يجادل الجندي الصهيوني قائلا: هذه أرضي. ولكن كيف ستعرف أنه أب لثلاثة عشر ابنا، بعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، يقفون في وجه الجنود في توزيع أدوار وتكامل يُعجز الجنود؟ وكيف ستعرف أنهم يسكنون بين مستوطنتي كعفات هفاؤوت وكريات أربع، وعلى بعد أمتار من  مركز اعتقال صهيوني، وقرب خيمة أقامها الصهاينة وجعلوها كنيسا، ويريدون منع أسرة أبو عنان من بيتهم لأجلها، وهي خيمة يحرسها جنود؟! كيف ستعرف أن الأسرة أصبحت رأس حربة للإنسانية والأمتين العربية والإسلامية في مواجهة العته العنصري؛ تخوض معارك يومية دفاعا عن أرضها وبيتها، يوثقونها ويصورونها بالتعاون مع ناشطين؟
إذا كنت تعرف العبرية، فستعرف أن الجندي يواجه رب الأسرة بالقول: "هذه أرض إسرائيل أعطاها الله لنا، اخرج منها". أما إذا لم تكن تعرف فسيترجم لك أبو عنان، أو ابنته مُدرسة العلوم التي لا تستطيع رغم أنّها تذود وترابط نيابة عن الأمة، أن تحصل على وظيفة ثابتة. ثم تراها في التسجيل الذي يوثق إحدى المواجهات تصرخ بالجندي أن يتحدث العربية أو يصمت.
كيف ستعرف هذا؟ وكيف ستعرف أنّ للقهوة في بيتهم طعما آخر؟ هم يعتقدون أنّ كل حجر في محيط بيتهم يستحق التقبيل، لأنّه كان يوما سلاحهم، وسلاح من يأتي لمناصرتهم من الشباب الذين يبنون شبكة تدخل سريع تتداعى لحظة المواجهة.
كل البرتقال متشابه ولا تتذكر شكله بعد أكله، ولكن مشهد طبق البرتقال الذي قدموه لنا لا يفارقني.
في الطريق إلى الطرف الآخر من المدينة، تمر في شارع يقسمه حاجز إسمنتي صغير، يخصص الجزء الضيق منه لسير العرب، ويقدر عددهم في الشوارع المحيطة بنحو 40 ألفا؛ والجزء الواسع لليهود وعددهم في الشوارع ذاتها بين 400 و 800 شخص. ويحرس هذا النظام جنود مسلحون على مدار الساعة. وسترى شبابا وأطفالا يجادلون الجنود في كل كبيرة وصغيرة، وجنود يتذرعون أحياناً بأنهم يمنعون الفلسطينيين وأي عربي من دخول شوارعهم حماية لهم من المستوطنين. سيحدثك الشاب الذي يرافقك عن بيوت تحتاج فيها الابنة تصريحا لزيارة أمها، وعن تردد سكان بعض المناطق في تزويج بناتهم لمن يسكنون بيوتا محاصرة!
عندما تصل تل الرميدة، لا تعرف ما الذي يجب أن تنتبه إليه؛ هل هي أشجار الزيتون الرومانية القديمة، صاحبة المشهد المميز في الكرم العالي فوق جبل الخليل، أو مستوطنون يجولون بين البيوت؟ ثم تجلس في مركز "شباب ضد الاستيطان"، تستمع إلى الشباب وتجربتهم ومعركتهم لتحرير البيت الذي نجلس فيه من المستوطنين، وتنتبه للأطفال يلعبون كرة القدم في ساحة قريبة، والجنود المدججون يمرون في الملعب بحركتهم الدائبة في المنطقة، دون أن يوقف الأطفال لعبهم، أو يمسهم طائف خوف.
خلف المنزل بيت آخر استولى عليه مستوطنون، ولا يفصل البيتين عن بعضهما سوى شريط معدني قصير. ترى طفلين من أبناء المستوطنين يرتديان الزي الديني اليهودي، ويلهوان كأي طفلين، يحرسهما جندي يوزع نظراته بيننا والأطفال، وتبدو عليه علامات الملل والضيق.
يوجه شاب صغير من الناشطين سؤالا لمنسق المجموعة: هل يمكن أن يصورنا بحيث يظهر الجندي في خلفية الصورة؟ فيرد عليه: تعلّم أن لا تسأل، افعل ما تريد وإذا حصلت مشكلة نواجهها.
تتناول وجبة طعام معهم، وتضحك لأن الأمور هادئة اليوم! ولكن وقبل أن تنهي العبارة يتلاشى الهدوء، وتجد الطفلين المستوطنين يلقيان حجارة على أطفال عرب، والجندي يراقب. وعندما يشرع "شباب ضد الاستيطان" بتصوير الحدث، ويصرخون على الجندي، يتحرك الأخير لوقف المستوطنين.
يعني "الرباط" في الخليل مداومة التحفز كل دقيقة، كل ساعة، كل يوم.
هناك عُزلٌ يذودون عن أمة، وإنسانية.. وحرفيون ما يزالون يصنعون ويزينون الخزف الخليلي الشهير.. وعائلات تقاتل.. ثم تدخل منزلها فتجد روحا ترتب الورد في الآنية، وتستقبل ضيوفها بالقهوة والبرتقال.

[email protected]