مرض اسمه "فيسبوك"

باتت مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، انستجرام، يوتيوب) وغيرها تستنزف من وقت عدد كبير من الناس في محيطنا أكثر بكثير من نطاق التواصل الطبيعي وتبادل الأفكار، واستبدلوها باللقاءات، حتى إن بعض الدعوات لمناسبات معينة باتت تصل عبر تلك الوسائل.اضافة اعلان
الواضح أن ذاك لعب دورا سلبيا على أكثر من صعيد، فمن جهة السياسة، بات جميع رواد (الفيسبوك) محللين سياسيين، وعلى الصعيد الاجتماعي بات سوادهم حكماء عصرهم، فغاب لقمان الحكيم عن الصورة، وطلب قس بن ساعدة والأمعري، وابن خلدون وغيرهم إجازة قصرية في ظل ارتفاع عدد الحكماء والفلاسفة العرب الذين ينطقون بـ"الدرر والحكمة"!!!.
وستجد من بين رواد الفضاء الافتراضي من يصف الدواء لكل داء، ومن يفسر الحلم والكوابيس، ومن يحكم بين الناس بدل المحاكم، والأنكى وجود أرقام مرتفعة من اولئك الرواد من ينقل الإشاعة ويبثها ويتعامل معها وكأنها أمر حقيقي، ومن ينقل خبرا غير صحيح ليصبح عند الصديق العاشر في فضائه الافتراضي كانه امر واقع، ولا غرابة إنْ حلف شخص مئات الأيمان أنه رأى الأمر (الإشاعة) بأم عينيه.
تفتح صفحتك الافتراضية على (الفيسبوك) فتتقاطر أمام ناظريك صور من مختلف الاتجاهات لناس وأطفالهم وعائلاتهم، ونزهات عائلية ومشاوٍ وطاولات سفرة ما أنزل الله بها من سلطان، وبطبيعة الحال يترافق مع ذلك عبارة (اتفضلوا!!!) دون معرفة كيف لنا أن نتفضل وأين؟!.
كما تصطف أمامك أقوال لا ينطق بها إلا حكماء أفنوا زهرة شبابهم في القراءة، ومعلومات صحفية وسياسية تتطلب قبل البوح بها ونشرها للعامة بحثا واستفسارا ورأيا ورأيا آخر، وتيقنا وتفحصا، قبل أن تنطلق للناس، ولكنها تنشر دون رادع ودون تيقن وتبصر، فيصبح ما ينشر معلومات أكيدة عند المتلقي، ويمكن أن يتحدث بها ويستند إليها في كل تحليل.
ولا غرابة إنْ تقاطرت أمام ناظريك وأنت تطالع صفحتك الشخصية تحليلات سياسية لا تتعلق بالأردن فقط، وإنما بالمنطقة بشكل عام، وقد يصل التحليل لجماعات بوكو حرام النيجيرية المجرمة، ولا بأس بالمرور إلى جنوب أفريقيا وميانامار وغيرها.
القصة باتت عندنا ليست حالة طبيعية يمكن التعبير عنها، ولكنها تدخل أحيانا في حالات تكفير حينا من قبل أشخاص يرفضون ما يقوله الآخر، واتهامات من أطراف لطرف آخر، فيما تقطر تلك الصفحات الافتراضية مذهبية وطائفية وإقليمية، وتشويها للاخر عند كل مفصل سياسي أو خبر غير صحيح وغير دقيق، لكنه يأخذ نصيبا كبيرا في تلك الصفحات، ويصبح صحيحا وإنْ تم نفيه لاحقا، أو تصحيحه!!.
ترى إلى اين نحن ذاهبون؟!، ترى هل ساهمت تلك الصفحات الافتراضية في زيادة درجة الكراهية والحقد والعنف والطائفية والمذهبية والإقليمية عند رواد تلك المواقع؟، وإلى أي مدى بات ما نشاهده في الفضاء الافتراضي ذاك يؤثر في حياتنا العملية الحقيقية؟!.
الأمر الواضح أن الأخبار المتعلقة بالحقن الطائفي والمذهبي التي تجد لها روادا كثرا باتت تسيطر على الحياة العملية الحقيقية عند آلاف وربما ملايين الناس، فنادرا ما تجد من يتحدث عن التوافق والتعايش الإنساني، والتبادل الثقافي والحضاري وتقبل الآخر، والدولة المدنية، على تلك الصفحات، وإن حصل فإنهم متهمون، وبات سواد الرواد يرفضون الآخر بالمطلق ويتحدثون عنه بازدراء وبغضب، ويبنون حوله الكثير من الأقاويل غير الواقعية.
الحال عندنا واضح، نتأثر بالقشور أكثر مما نتأثر بالحقيقة، نسير خلف من يضخ لنا يوميا من قبل قنوات الشحن الطائفي والمذهبي ونتعامل معها كمسلمات حقيقية، حالنا باتت تسيطر عليه ثقافة السمع أكثر من ثقافة القراءة والمطالعة والتبصر، فباتت أغلب معلوماتنا سمعية وبصرية ومنقولة، لا غير، وقائمة على الإشاعة.
في المحصلة... هل نحن في حالة  فراغ سياسي، فكري، نفسي، ثقافي، اجتماعي، إنساني؟، هل نعبر من خلال فضاءات افتراضية عن مشاعر كامنة في النفس تؤشر لأمراض نفسية حينا، وجنون عظمة حينا، وفراغ في كل الاتجاهات حينا آخر؟!!.