مستشفى البشير.... الثغرات والمخاطر بلغة الأرقام

figuur-i-126
figuur-i-126

الدكتور سهيل الصويص

عمان - ليس من السهل على الإطلاق الوصول بمؤسسة صحية كبيرة بها 1100 سرير لدرجة الكمال في تقديم الخدمات المثالية للمواطنين، ولكن أي نجاح في هذه المهمة الصعبة يتطلب توفر الكوادر البشرية الكافية والكفؤة والأهم وجود إدارة لديها قدرات وخبرات مهنية معتبرة.
في (يناير) الماضي عبّر الرئيس الرزاز عن ضرورة تحسيـن الخدمات في أكبر صرح طبي حكومي في المملكة متمنياً الارتقاء بخدمات مستشفى البشير ليصبح "نبراساً" لكل المستشفيات، مما يعني بأن الأداء الحالي ليس بالمستوى المرتجى. وأمنيات الرئيس وهو العارف بالصعوبات والعقبات المحتملة أمام تحقيقها، تذكرنا بخطاب للرئيس عبد الناصر العام 1962 بخصوص مستشفى القصر العيني ذي الستة آلاف سرير والذي يمثل أكبر مستشفى تعليمي في مصر عندما قال: لقد استطعنا بناء السد العالي لكننا لم ننجح في إصلاح القصر العيني.
نجاح تطلعات الرئيس ليس بالأمر اليسير ونحن نطالع في الدراسة المرفقة الأرقام الرسمية حول أداء وكوادر البشير على مدى عشرة أعوام متتابعة بحيث يتولد لدى المراقب شعور بأنه بإمكان هذه الثغرات الخطيرة إجهاض أي مهمة بتحسين وتطوير هذا الصرح العملاق الذي يواصل المسيرة بفضل جهود وتصميم كوادره الشحيحة رغم الجحود الرسمي وفقر الإمكانيات الطبية والتمريضية مما يبرر للمنتقدين مواصلة تصويب سهام انتقاداتهم المحقة أحياناً ضد "البشير".
الأمثلة الموثقة لخدمات وإمكانيات البشير من 1-1-2010 وحتى 1-1-2020 تعطينا اعترافا رسميا ودلالة موثقة عن التقصير الرسمي بحق البشير، وكشفها ليس من باب المزاودة فهي صادرة عن الوزارة نفسها التي تنشرها ولا تقوم بإصلاح ثغراتها.

اضافة اعلان


لنأخذ أمراض القلب على سبيل المثال التي تمثل السبب الأول للوفيات في الأردن فالإحصائيات تقول بأن نصف جلطات القلب مصيرها الموت المحدق في الساعات الستة الأولى من بداية الأعراض، فهل يعقل أن يبقى البشير منذ العام 2013 بطاقة هزيلة تتمثل ب 18 سريراً فقط للعناية الحثيثة لأمراض القلب CCU رغم استقباله لـ 1500 مريض سنوياً وسيستقبل العشرات غيرهم لو توفرت الإمكانيات بل وعلى النقيض قامت الإدارة الكريمة العام الماضي بتخفيض التعداد لـ 16 سريراً فقط، فهل من المفاجئ أن تتسلل الكوارث وتحصد بعض الأرواح في هذا المجال الأكثر حساسية أمام جميع الأمراض الأخرى.
هنالك أيضاً خلل خطير في قسم العناية المركزة ICU فكيف يمكننا تقبل نسبة الوفيات الكثيفة في هذا القسم حتى لو كان يستقبل كبريات العمليات الجراحية رغم أن اختصاصات حساسة مثل جراحة القلب غير موجودة في البشير، وعندما تعلمنا أرقام الوزارة بأن 365 مريضاً من بين 965 دخلوا القسم العام الماضي لم يخرجوا أحياء فذلك يثير القلق والتساؤلات والقشعريرة معاً وخصوصاً أن معدل الوفيات هذه لا يتحسن مع الزمن بل يتدهور بشكل غير مستوعب (170 وفاة من بين 873 مريضا عام 2012 و 284 وفاة من بين 1089 مريضا عام 2014) بحيث تضاعفت نسبة الوفيات ما بين أعوام 2012 و 2019، ووصلت من 19 % إلى 37 % فهل هنالك أطباء إنعاش وممرضون مختصون بعدد كاف أم أين تكمن المشكلة؟
عندما يستقبل مستشفى في عياداته الخارجية أكثر من نصف مليون مراجع سنوياً (559490 مريضا عام 2017 و 557392 عام 2019)، وعندما تدخل مختلف أقسامه قوافل من آلاف المرضى يزداد تعدادهم بشكل كبير بحيث وصلت من 73467 مريضا العام 2010 إلى 99439 مريضا العام 2019 فإنه إن كنا بالفعل حريصين على صحة وأرواح المرضى ونرغب في تقديم أفضل رعاية وأكثرها سلامة ونعمل على الحيلولة دون تسلل الخلل فمن الواجب أن نضع في خدمتهم كوادر طبية وتمريضية كافية وكفؤة، فهل واكب الازدياد في عدد المرضى زيادة نسبية في عدد الأطباء والممرضين أم أن الأرقام الرسمية التي سنعرضها ستكون مخيبة للآمال؟
أمّا العمليات الجراحية في البشير فلقد ازدادت في السنوات العشر الأخيرة من 20677 إلى 30482 عملية، وحالات الإسعاف والطوارئ التي تمثل قنبلة موقوتة بخطورتها فقد ازدادت من 466339 مريضا عام 2013 لتصل ل 583822 مريضا العام 2017 و 565571 العام 2018.
وعندما نتحدث عن عمليات جراحية وحالات إسعاف في البشير فالحالة تختلف عما يجري في المستشفيات الأخرى فهو بالفعل الصرح الذي لا يمكن أن نحسده على استقطابه لهذه الألوف من المرضى فبين جدرانه تجرى العمليات الخطرة وكثيرة منها قادمة من المستشفيات الحكومية الأخرى ف 43 % من مجموع العمليات تصنف بالعمليات الكبرى وهي نسبة فريدة بين مستشفيات المملكة. أمّا حالات الإسعاف والطوارئ التي يستقبلها البشير فهي ليست دوماً يسيرة وبسيطة ف 72 % من مجموع الحالات التي تصله تعتبر بالفعل حالات طارئة وصعبة بنسبة خطورة مرتفعة وليست مجرد حالات مرضية بسيطة وخدوش في حوادث سير اعتيادية.
بعد هذه المعطيات الهائلة من حالات الإدخال والاستشارات والطوارئ والجراحة قد لا يكون من السهولة للبعض الاقتناع بالأرقام الرسمية المتوفرة عن تعداد الكوادر الطبية والتمريضية التي يتمتع بها البشير لخدمة هذه الألوف من المرضى. ففي الوقت الذي تتزايد به طاقة العمل وأعداد المرضى فهذا الصرح العملاق يا سادة لا يتواجد به سوى طاقم من أطباء اختصاص يتناقص سنوياً حيث كان تعدادهم 246 طبيب اختصاص العام 2015 بعد أن كانوا 279 طبيبا العام 2012، ومن ثم غدوا 192 طبيباً عام 2016 و 207 عام 2019 ليصبحوا حسب آخر إحصائية لعام 2019 أقل مما كانوا عليه قبل سبع سنوات أي 253 طبيب اختصاص.
ولنأتي الآن على عنصر مهم للغاية في توفير العناية الضرورية والحيوية للمرضى والمراجعين والمتمثل بالطاقم التمريضي وفي المقدمة الممرضون القانونيون، ففي البشير اليوم حسب آخر إحصائية 849 ممرضا قانونيا وهو العدد الذي كان متواجداً بالتحديد العام 2015 والذي شهد تناقصاً في العام 2017 وصل لـ 774 ممرضاً.
هل هنالك في ظل هذه المعطيات والأرقام المقلقة، وباستثناء حدوث معجزة، مجرد بارقة أمل بأن يغدوا البشير نبراساً لبقية المستشفيات؟
في ظل هذه المعطيات الرسمية يمكننا القول بأن مستشفى البشير يعمل بعزيمة طاقم طبي - تمريضي شحيح لكنه يحقق الإنجازات المتناسبة مع الإمكانيات والقدرات وإن حصلت بعض الهفوات فليكن اللوم على من يخطط ويمول ويرفض التطوير والإصلاح والتحسين.
سنوات طويلة من النسيان والإهمال المتواصل أوصلتنا لكي نصغي اليوم لهذه الانتقادات الحادة للبشير وعندما ينتقد الأردني لا يجلد المسبب بل الضحية والضحية ليست سوى الطاقم الطبي والتمريضي، فالقيام، رغم زيادة طاقة العمل بشكل كثيف بتقليص عدد الأخصائيين بنسبة 31 % ما بين أعوام 2012-2016 يمثل دعوة مع سبق الإصرار لكي تدخل المضاعفات والحوادث لتفتك بصحة وأرواح المرضى.
مستشفى البشير ليس مجرد مستشفى حكومي تقليدي، ولا مركزا صحيا متطورا فهو الذي يتلقى الحالات الصعبة والحرجة، فهل يعقل أن نحرمه بهذه الصورة المتواصلة من المقومات الحيوية للنجاح لإيصال المريض لشاطئ النجاة والسلامة ومن ثم يأتي من يجلده ويشكك بكفاءة كوادره؟
من بين طاقم البشير السابق يكتظ القطاع الخاص بألمع الأخصائيين والذين يحظون بثقة المرضى ويقدمون خبراتهم بشكل نفتخر به، والعديد من العاملين في البشير اليوم تخرجوا من خيرة مستشفيات الكون ولديهم الشهادات والخبرات والمواهب التي يحلم بها طبيب أوروبي، لكن الأطباء والممرضين بشر ولديهم طاقات لا يمكن تجاوزها دون أن يشكل ذلك ثغرة عفوية قد يتسلل من خلالها الخطر وتحدث الكارثة.
قبل ثلاثة أسابيع قام جلالة الملك بافتتاح قسم الطوارئ الجديد في البشير وحسبما تم التصريح به فإنه يحتوي على 162 سريراً من بينها 55 سريراً مزودة بأجهزة التنفس الاصطناعي لكن ما لم يقله المسؤولون أمام الملك هل تم استقطاب أطباء إنعاش وتخدير وطوارئ وممرضين مختصين لتفعيل هذا القسم الضخم؟ وهل باشر القسم العمل بالفعل؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فأين تبخرت هذه الأسرة والأجهزة بعد بضعة أيام فقط؟
لا يمكننا النجاح والسياسة الحالية ترتكز على تقليص تعداد الكوادر الطبية والتمريضية وعدم التخطيط لزيادتها بل على النقيض القيام بشكل يفتقر لأدنى رؤيا للمصلحة الحيوية لمرضى البشير بنقل أخصائيين من ذوي الخبرة الواسعة في مجالات حساسة طاقتها متواضعـة لمستشفيات حكومية أخرى، أفلا يعتبر ذلك تعريضاً متعمداً لحياة مرضى البشر للخطر؟
الثغرات التي يمتلئ بها البشير اليوم عرضة لتسلل المخاطر وعلاجها والتخلص منها وتوخي النجاح يتطلب فقط العزيمة والجدية والنية والتخطيط السليم وبالانتظار فلا بد أن تتواصل الهفوات وأن يدفع ليس فقط المرضى الثمن بل الأطباء والممرضون المغلوبون على أمرهم.