مستقبل الرأسمالية صدام الرأسماليات: الصراع الحقيقي من أجل مستقبل الاقتصاد العالمي (2-2)

Untitled-1
Untitled-1

برانكو ميلانوفيتش* - (فورين أفيرز) عدد كانون الثاني (يناير)/ شباط (فبراير) 2020

اضافة اعلان

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الرأسمالية السياسية الصينية
في آسيا، لا تمتلك العولمة السمعة نفسها التي كسبتها في الغرب: وفقا لاستطلاعات الرأي، يعتقد 91 في المائة من الناس في فيتنام، على سبيل المثال، أن العولمة هي قوة من أجل الخير. ومن المفارقات أن الشيوعية في بلدان مثل الصين وفيتنام هي التي أرست الأساس لتحولها الرأسمالي في نهاية المطاف. فقد وصل الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة في العام 1949 من خلال ثورة وطنية (ضد الهيمنة الأجنبية) وثورة اجتماعية (ضد الإقطاع) على حد سواء، وهو ما سمح له بالقضاء على كل الإيديولوجيات والعادات التي كانت تُرى على أنها تبطئ التنمية الاقتصادية وتخلق انقسامات طبقية مصطنعة. (على النقيض من ذلك، لم ينجح صراع الاستقلال الهندي الأقل تطرفا بكثير في محو نظام الطوائف الاجتماعية). وكانت هاتان الثورتان المتزامنتان في الصين شرطاً مسبقاً لخلق طبقة رأسمالية محلية على المدى الطويل، والتي ستدفع الاقتصاد إلى الأمام. وقد لعبت الثورات الشيوعية في الصين وفيتنام وظيفيا الدور نفسه الذي لعبه صعود البرجوازية في أوروبا في القرن التاسع عشر.
في الصين، حدث التحول من شبه الإقطاع إلى الرأسمالية بسرعة، تحت سيطرة دولة قوية للغاية. وفي أوروبا، حيث تم القضاء على الهياكل الإقطاعية ببطء على مر القرون، لعبت الدولة دوراً أقل أهمية في التحول إلى الرأسمالية. وإذا أخذنا هذا التاريخ في الاعتبار، فليس من المستغرب عندئذٍ أن تكون للرأسمالية في الصين وفيتنام وأماكن أخرى في المنطقة في أغلبها نزعة استبدادية.
لنظام الرأسمالية السياسية ثلاث سمات محدِّدة. أولاً، تدير الدولة بيروقراطية تكنوقراطية، والتي تدين بشرعيتها للنمو الاقتصادي. ثانياً، على الرغم من أن الدولة لديها قوانين، إلا أنها تطبَّق بشكل تعسفي، وبطريقة تعمل كثيراً لصالح النخب التي يمكنها رفض تطبيق القانون عندما يكون غير مريح أو تطبيقه بكل قوة لمعاقبة المعارضين. وتغذي تعسفية تطبيق القانون في هذه المجتمعات السمة المميزة الثالثة للرأسمالية السياسية: الاستقلال الذاتي الضروري للدولة. فلكي تتصرف الدولة بشكل حاسم، يجب أن تكون متحررة من القيود القانونية. ويفضي التوتر بين المبدأين الأول والثاني -بين البيروقراطية التكنوقراطية والتطبيق الفضفاض للقانون- إلى إنتاج الفساد الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من الطريقة التي يُقام بها النظام الرأسمالي السياسي، وليس شذوذاً عنه.
منذ نهاية الحرب الباردة، ساعدت هذه الخصائص على منح طاقة إضافية لنمو البلدان الشيوعية ظاهرياً في آسيا. وخلال فترة الـ27 عاما المنتهية في العام 2017، بلغ متوسط معدل النمو في الصين حوالي 8 في المائة، وبلغ متوسط معدل النمو في فيتنام حوالي 6 في المائة، مقارنة باثنين في المائة فقط في الولايات المتحدة.
يتمثل الجانب الآخر من النمو الفلكي في الصين في الزيادة الهائلة في عدم المساواة. من العام 1985 إلى العام 2010، قفز معامل جيني في البلاد من 0.30 إلى حوالي 0.50 -أعلى من مثيله في الولايات المتحدة وأقرب إلى المستويات المسجلة في أميركا اللاتينية. وقد ارتفع منسوب عدم المساواة في الصين بشكل هائل داخل كل من المناطق الريفية والحضرية على حد سواء، بل إنه ارتفع بشكل أكبر في البلد ككل بسبب الفجوة المتزايدة بين تلك المناطق. ويتضح عدم المساواة المتزايد في كل قسمة: بين المحافظات الغنية والفقيرة؛ والعمال ذوي المهارات العالية والعمال ذوي المهارات المتدنية؛ والرجال والنساء؛ والقطاع الخاص والقطاع الحكومي.
من الجدير بالملاحظة أن الصين شهدت زيادة في حصة الدخل من رأس المال الذي يمتلكه القطاع الخاص، والذي يبدو أنه متركز هناك كما هو الحال في اقتصادات السوق المتقدمة في الغرب. وقد تشكلت نخبة رأسمالية جديدة في الصين. وفي العام 1988، كان العمال الصناعيون المهرة وغير المهرة، وموظفو الأعمال الكتابية، والمسؤولون الحكوميون يمثلون 80 في المائة من أولئك في الخمسة في المائة العليا من كاسبي الدخل. وبحلول العام 2013، انخفضت حصتهم بمقدار النصف تقريباً، وأصبح أصحاب الأعمال (20 بالمائة) والمهنيون (33 بالمائة) هم المسيطرون.
ثمة سمة بارزة للطبقة الرأسمالية الجديدة في الصين، هي أنها خرجت من التراب، إذا جاز التعبير؛ حيث يفيد أربعة أخماس أعضائها بأن آباءهم كانوا إما مزارعين أو عمالاً يدويين. وليس هذا التنقل عبر الأجيال مفاجئا نظرا للقضاء على الطبقة الرأسمالية بالكامل تقريباً بعد انتصار الشيوعيين في العام 1949، ثم مرة أخرى خلال "الثورة الثقافية" في الستينيات. لكن هذا التنقل قد لا يستمر في المستقبل، عندما يجب أن يشرع انتقال الثروة والسلطة عبر الأجيال -بالنظر إلى تركيز ملكية رأس المال، وارتفاع تكاليف التعليم، وأهمية الروابط العائلية- في أن يعكِس ما يشاهَد في الغرب.
مع ذلك، فإن هذه الطبقة الرأسمالية الجديدة في الصين -إذا قورنت مع نظيراتها في الغرب- قد تكون طبقة بحد ذاتها أكثر من كونها طبقة لذاتها؛ حيث تسمح أشكال الملكية البيزنطية الكثيرة والمعقدة -والتي تخفي الخطوط الفاصلة بين القطاعين العام والخاص على الصعيدين المحلي والوطني- للنخبة السياسية بتقييد قوة النخبة الاقتصادية الرأسمالية الجديدة.
منذ آلاف السنين، كانت الصين موطناً لدول قوية ومركزية إلى حد كبير، والتي منعت دائماً الطبقة التجارية من أن تصبح مركزاً مستقلاً للقوة. ووفقا للباحث الفرنسي جاك جيرنيه Jacques Gernet، فإن التجار الأثرياء في عهد أسرة سونغ في القرن الثالث عشر لم ينجحوا أبدا في خلق طبقة واعية لذاتها وذات مشتركة، لأن الدولة كانت دائمًا مستعدة لضبط قوتهم. وعلى الرغم من أن التجار واصلوا ازدهارهم كأفراد (كما يفعل الرأسماليون الجدد إلى حد كبير في الصين الراهنة)، فإنهم لم يشكلوا قط طبقة متماسكة بأجندة سياسية واقتصادية خاصة بهم أو بمصالح يتم الدفاع عنها وترويجها بقوة. وقد اختلف هذا السيناريو بشكل ملحوظ، وفقاً لجيرنيه، عن الموقف الذي كان قائماً في الوقت نفسه تقريبا في جمهوريات التجار الإيطالية والبلدان المنخفضة. ومن المحتمل أن يستمر وجود هذا النمط من الرأسماليين الذين يقومون بإثراء أنفسهم من دون ممارسة السلطة السياسية في الصين وفي البلدان الرأسمالية السياسية الأخرى أيضاً.
صدام النُّظُم
بينما تقوم الصين بتوسيع دورها على الساحة الدولية، فإن نسختها من الرأسمالية تتعارض دائماً مع رأسمالية الجدارة الليبرالية في الغرب. وقد تحل الرأسمالية السياسية محل النموذج الغربي في العديد من البلدان حول العالم.
تكمن ميزة الرأسمالية الليبرالية في نظامها السياسي القائم على الديمقراطية. والديمقراطية مرغوبة في حد ذاتها، بطبيعة الحال، لكنها تتمتع أيضا بميزة عملية. فلأنها تتطلب المشاورة المستمرة للسكان، توفر الديمقراطية آلية تصحيحية قوية للاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تكون ضارة للصالح العام. وحتى إذا كانت قرارات الناس تؤدي في بعض الأحيان إلى سياسات تقلل من معدل النمو الاقتصادي، أو تزيد التلوث، أو تقلل من متوسط العمر المتوقع، فإن عملية اتخاذ القرار الديمقراطي ينبغي أن تقوم بتصحيح مثل هذه الاتجاهات في غضون فترة زمنية محدودة نسبيًا.
من جانبها، تَعِدُ الرأسمالية السياسية بإدارة أكثر كفاءة للاقتصاد وبمعدلات أعلى من النمو. وحقيقة أن الصين كانت الدولة الأكثر نجاحا -اقتصاديا- إلى حد بعيد في نصف القرن الماضي، تجعلها في وضع يؤهلها لمحاولة تصدير مؤسساتها الاقتصادية والسياسية بشكل مشروع. ولعل أبرز طريقة لقيامها بذلك هي "مبادرة الحزام والطريق"، وهي مشروع طموح يهدف إلى ربط عدة قارات من خلال بنية تحتية محسَّنة بتمويل صيني. وتشكل هذه المبادرة تحديا أيديولوجيا للطريقة التي كان الغرب يتعامل بها مع التنمية الاقتصادية في أنحاء العالم. ففي حين يركز الغرب على بناء المؤسسات، تقوم الصين بضخ الأموال لبناء أشياء مادية محسوسة.
وسوف تقوم مبادرة الحزام والطريق بربط البلدان الشريكة في مجال نفوذ صيني واسع. بل إن لدى بكين خططاً للتعامل مع نزاعات الاستثمار المستقبلية تحت ولاية محكَمة صُنعت في الصين -في نقيض كامل لبلد كان الأميركيون والأوروبيون في الصين قد صنعوا فيه "قرن الإذلال" (1) في القرن التاسع عشر، عندما رفضوا الخضوع للقوانين الصينية.
قد ترحب العديد من الدول بأن تكون جزءاً من مبادرة الحزام والطريق. فسوف يؤدي الاستثمار الصيني إلى جلب الطرق والمرافئ والسكك الحديدية وغيرها من البنى التحتية التي تمس الحاجة إليها، ومن دون نوع الشروط التي غالباً ما تصاحب الاستثمار الغربي. ليس للصين اهتمام بالسياسات الداخلية للدول المتلقية؛ وبدلاً من ذلك، تؤكد المساواة في معاملة جميع البلدان. وهو نهج يجده الكثير من المسؤولين في البلدان الأصغر جذاباً بشكل خاص. كما تسعى الصين أيضا إلى بناء مؤسسات دولية، مثل "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية"، في اتباع لطريقة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما قادت واشنطن إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ولدى بكين أيضاً سبب آخر لتكون أكثر نشاطاً على الساحة الدولية. إذا فشلت الصين في الإعلان عن مؤسساتها الخاصة بينما يواصل الغرب تعزيز قيم الرأسمالية الليبرالية في الصين، فإن شرائح كبيرة من الشعب الصيني قد تصبح أكثر انجذاباً إلى المؤسسات الغربية. وقد فشلت الاضطرابات الحالية في هونغ كونغ في الانتشار إلى أي مكان آخر في الصين، لكنها تجسد مع ذلك استياءً حقيقياً من التطبيق التعسفي للقانون، وهو استياء قد لا يقتصر على المستعمرة البريطانية السابقة. كما أن الرقابة السافرة على الإنترنت لا تحظى بشعبية كبيرة بين الشباب والمتعلمين.
من خلال إسقاطها مزايا رأسماليتها السياسية في الخارج، سوف تقلل الصين من جاذبية النموذج الليبرالي الغربي لمواطنيها. ويمكن القول إن أنشطتها الدولية هي في الأساس مسائل تتعلق بالبقاء المحلي. ومهما يكن الترتيب الرسمي أو غير الرسمي الذي تتوصل إليه بكين مع الدول التي تعتنق الرأسمالية السياسية، فإن الصين ستمارس حتماً نفوذاً متزايداً على المؤسسات الدولية التي كانت الدول الغربية هي التي بنتها بشكل حصري خلال القرنين الماضيين، فقط لخدمة المصالح الغربية.
مستقبل الرأسمالية
يقول جون رولز John Rawls، الفيلسوف البارز لليبرالية الحديثة، إن المجتمع الصالح يجب أن يعطي أولوية مطلقة للحريات الأساسية على الثروة والدخل. ومع ذلك، تُظهر التجربة أن الكثير من الناس مستعدون لمقايضة الحقوق الديمقراطية بالحصول على دخل أكبر. ويحتاج المرء ببساطة إلى ملاحظة أنه يتم داخل الشركات تنظيم الإنتاج بشكل عام بأكثر أشكال التسلسل هرمية وليس أكثرها ديمقراطية. ولا يصوت العمال على المنتجات التي يرغبون في إنتاجها أو على الطريقة التي يرغبون في إنتاجها بها. والتسلسل الهرمي ينتج كفاءة أعلى وأجوراً أعلى. وكان الفيلسوف الفرنسي جاك إلول Jacques Ellul قد كتب قبل أكثر من نصف قرن أن "التقنية هي حد الديمقراطية. وما تكسبه التقنية تخسره الديمقراطية. إذا كان لدينا مهندسون يتمتعون بشعبية لدى العمال، فإنهم سيكونون جاهلين بالآلات". ويمكن توسيع نطاق هذا القياس نفسه ليشمل المجتمع ككل: يمكن أن يتم التخلي عن الحقوق الديمقراطية، وقد تم التخلي عنها فعلياً، عن طيب خاطر من أجل الحصول على دخول أعلى.
في عالم اليوم المحموم المليء بالنشاط التجاري (المصمم أساساً لتحقيق مكاسب مالية والهادف إلى الربح)، نادراً ما يكون لدى المواطنين الوقت، أو المعرفة، أو الرغبة في المشاركة في المسائل المدنية ما لم تكن القضايا تهمهم مباشرة. ومن الملفت ملاحظة أن انتخاب الرئيس في الولايات المتحدة، وهي واحدة من أقدم الديمقراطيات في العالم، وحيث يتمتع الرئيس في كثير من النواحي في النظام الأميركي بصلاحيات ملك منتخب، لا يعد مهماً بما يكفي لدفع أكثر من نصف الناخبين للذهاب إلى صناديق الاقتراع. وفي هذا الصدد، تؤكد الرأسمالية السياسية تفوقها.
مع ذلك، تكمن المشكلة في أن الرأسمالية السياسية تحتاج، من أجل إثبات تفوقها وتجنب مواجهة تحدٍ ليبرالي، إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة بشكل ثابت. ولذلك، في حين أن مزايا الرأسمالية الليبرالية طبيعية، باعتبارها مندغمة بنوياً في إعدادات النظام، فإن مزايا الرأسمالية السياسية أدواتية: يجب إظهارها باستمرار. وتبدأ الرأسمالية السياسية بعائق الحاجة إلى إثبات تفوقها تجريبياً. وهي تواجه مشكلتين أخريين أيضاً: مقارنة بالرأسمالية الليبرالية، لدى الرأسمالية السياسية ميل أكبر إلى توليد سياسات رديئة ونتائج اجتماعية سيئة يصعب نقضها، لأنه ليس لدى الذين في السلطة حافز لتغيير المسار. كما أنها يمكن أن تولِّد بسهولة الاستياء الشعبي بسبب فسادها المنهجي في غياب حكم واضح للقانون.
تحتاج الرأسمالية السياسية إلى تسويق نفسها على أساس توفير إدارة مجتمعية أفضل، ومعدلات نمو أعلى، وإدارة أكثر كفاءة (بما في ذلك إقامة العدل). وعلى عكس الرأسمالية الليبرالية، التي يمكن أن تتخذ موقفاً أكثر استرخاء تجاه المشاكل المؤقتة، يترتب على الرأسمالية السياسية أن تكون واقفة على أصابع قدميها وعلى أهبة الاستعداد بشكل دائم. ومع ذلك، قد يُنظر إلى هذا على أنه ميزة من وجهة نظر اجتماعية داروينية: بسبب الضغط المستمر عيها لتقديم المزيد لناخبيها، قد تشحذ الرأسمالية السياسية قدرتها على إدارة المجال الاقتصادي ومواصلة إنتاج المزيد من السلع، عاماً بعد آخر، أكثر من نظيرتها الليبرالية. وهكذا، فإن ما يظهر في البداية كعيوب قد يتبين أنه ميزة.
ولكن هل سيوافق الرأسماليون الجدد في الصين إلى الأبد على ديمومة الوضع الراهن الذي يمكن فيه تقييد حقوقهم الرسمية أو إبطالها في أي لحظة، وحيث يخضعون للوصاية المستمرة للدولة؟ أم أنهم سيعمدون، كلما أصبحوا أقوى وأكثر عدداً، إلى تنظيم أنفسهم والتأثير على الدولة، ثم تولي زمام الأمور أخيراً كما حدث في الولايات المتحدة وأوروبا؟ يبدو أن للمسار الغربي، كما رسمه كارل ماركس، منطق صارم: إن القوة الاقتصادية تميل إلى تحرير نفسها وإلى رعاية مصالحها الخاصة -أو فرضها. لكن سجل ما يقرب من 2000 عام من الشراكة غير المتكافئة بين الدولة الصينية وقطاع الأعمال الصيني يشكل عقبة رئيسية أمام سير الصين في المسار نفسه الذي سلكه الغرب.
السؤال الرئيسي هو ما إذا كان الرأسماليون الصينيون سيصلون إلى السيطرة على الدولة، وما إذا كانوا سيستخدمون الديمقراطية التمثيلية لتحقيق ذلك. في الولايات المتحدة وأوروبا، استخدم الرأسماليون هذا العلاج بعناية فائقة، وقاموا بإدارته بجرعات صغيرة مُعايرة بينما يتوسع الامتياز التجاري ببطء أو سحبه كلما كان هناك تهديد محتمل للطبقات التي تحتفظ بالأملاك (كما حدث في بريطانيا العظمى بعد الثورة الفرنسية، عندما أصبح الحق في التصويت أكثر تقييداً). ومن المحتمل أن تشبه الديمقراطية الصينية، في حال قدومها، الديمقراطية في بقية العالم اليوم، بالمعنى القانوني لمنح صوت واحد لكل شخص. ومع ذلك، بالنظر إلى ثقل التاريخ والطبيعة غير المستقرة والحجم الذي ما يزال محدوداً للطبقات الصينية التي سُمح بأن تكون لها أملاك، يبقى من غير المؤكد ما إذا كان يمكن استدامة حكم تتولاه الطبقة الوسطى في الصين. فقد فشلت هذه الطبقات في الجزء الأول من القرن العشرين في ظل جمهورية الصين (التي سيطرت على معظم البر الرئيسي من 1912 إلى 1949)؛ وفقط بصعوبة كبيرة يمكن أن تتم إعادة تأسيسها بنجاح أكبر بعد 100 عام من ذلك.
حكم بلوتوقراطي؟
ماذا الذي يخبئه المستقبل للمجتمعات الرأسمالية الغربية؟ تتوقف الإجابة على ما إذا كانت رأسمالية الجدارة الليبرالية ستتمكن من الانتقال نحو مرحلة أكثر تقدماً -ما يمكن تسميته "رأسمالية الناس"؛ حيث يتم توزيع الدخل من كل من عناصر الإنتاج، ورأس المال والعمالة، بشكل متساوٍ. وهذا يتطلب توسيع نطاق ملكية رأس المال بطريقة يعتد بها، وبما يتجاوز نسبة العشرة في المائة العليا الحالية من السكان، وتوفير الوصول إلى المدارس والجامعات الأفضل والوظائف ذات الأجور الأفضل بصرف النظر عن خلفية أسرة المرء.
لتحقيق قدر أكبر من المساواة، يجب على الدول تطوير حوافز ضريبية لتشجيع الطبقة الوسطى على الاحتفاظ بمزيد من الأصول المالية، وفرض ضرائب أعلى على الميراث لبالغي الثراء، وتحسين التعليم العام المجاني، وإنشاء حملات انتخابية تمولها الحكومة. وسيكون التأثير التراكمي لهذه التدابير هو صناعة توزيع أكبر لملكية رأس المال والمهارات في المجتمع. وسوف تكون رأسمالية الناس شبيهة بالرأسمالية الديمقراطية الاجتماعية من حيث عنايتها بعدم المساواة، ولكنها سوف تطمح إلى نوع مختلف من المساواة؛ بدلاً من التركيز على إعادة توزيع الدخل، سوف يسعى هذا النموذج إلى تحقيق قدر أكبر من المساواة في الأصول، سواء المالية أو المتعلقة بالمهارات. وعلى عكس الرأسمالية الديمقراطية الاجتماعية، لن تتطلب هذه سوى سياسات إعادة توزيع متواضعة (مثل قسائم الطعام ومزايا الإسكان) لأنها ستكون قد وضعت مسبقاً أسساً أكبر للمساواة.
إذا فشلت في معالجة مشكلة عدم المساواة المتزايدة، فإن أنظمة رأسمالية الجدارة الليبرالية تخاطر بالارتحال في طريق آخر -ليس نحو الاشتراكية وإنما نحو التقارب والالتقاء مع الرأسمالية السياسية. وسوف تصبح النخبة الاقتصادية في الغرب أكثر عزلة، وتمارس المزيد من السلطة المطلقة على المجتمعات الديمقراطية ظاهرياً، على نحو يشبه كثيراً تلك الطريقة التي تتسيد بها النخبة السياسية في الصين ذلك البلد. وكلما زاد اندماج القوة الاقتصادية والسياسية في الأنظمة الرأسمالية الليبرالية معاً، تصبح الرأسمالية الليبرالية أكثر بلوتوقراطية، آخذة بعض ملامح الرأسمالية السياسية. وفي هذا النموذج الأخير، تكون السياسة هي السبيل لجني الفوائد الاقتصادية؛ في الرأسمالية البلوتوقراطية -التي كانت ليبرالية وقائمة على الجدارة سابقا- سوف تتمكن القوة الاقتصادية من قهر السياسة. وستكون نقطة نهاية النظامين هي نفسها: الصفوف المغلقة لقلةٍ صاحبة امتيازات، وإعادة إنتاج هذه النخبة إلى أجل غير مسمى في المستقبل.

*اقتصادي صربي-أميركي، وأستاذ في جامعة مدينة نيويورك. اشتهر بدراسة توزيعات الدخل بعيداً عن حدود الدول أو المناطق ورسم خريطة لهذه التوزيعات عند النظر إلى الاقتصاد العالمي ككل. ويُعرف بأعماله عن توزيع الدخل والتفاوت الاقتصادي. ومن كتبه "الرأسمالية فقط". يعمل منذ كانون الثاني (يناير) 2014، أستاذاً رئاسياً زائراً في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، وكبير الباحثين المنتسبين في دراسة الدخل في لوكسمبورغ. كما يُدرِّس في كلية لندن للاقتصاد ومعهد برشلونة للدراسات الدولية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Clash of Capitalisms: The Real Fight for the Global Economy’s Future
هامش:
(1) قرن الإذلال The century of humiliation المعروف أيضا بأوصاف مثل المائة عام من الإذلال الوطني، هو ما سميت به فترة التدخل والإمبريالية التي مارستها القوى الغربية واليابان في الصين بين العامين 1839 و1949.