مشروع تخرج !

جميلة حدّ الدمع نظرة الأهل إلى أبنائهم الذين يناقشون مشاريع تخرجهم، مرتدين عباءات التخرج ومنهمكين في الدفاع عن أعمالهم أمام لجنة التحكيم!
لو يعرف الأبناء ماذا تعني تلك الدقائق في حياة الآباء، ربما لترووا قليلا قبل أن يختاروا عناوين مشاريعهم، لترتبط بشكل مباشر مع كم المشاعر الفياضة التي تملأ جلسات المناقشات، في زمن يختصر خوف السنين وتعب الليالي وأمنيات العمر داخل قاعة مغلقة على لحظة انتظار النهاية السعيدة.اضافة اعلان
حظيت بحضور تلك المناقشات خلال الأسبوع الفائت في كلية الإعلام بجامعة الشرق الأوسط، كان أبطالها من شتى المنابت والمرجعيات والفئات الاجتماعية  واللهجات المختلفة. وكلهم سواء الذين أتوا من الغور أو عمان أو الشمال أو الضفة الغربية أو معان، اجتمعت بهم الأحاسيس ذاتها والنظرات نفسها، التي لم تترك لجنة التحكيم لحظة واحدة. جلهم كانوا نساء ورجالا وأطفالا منهمكين في استشراف رأي الأساتذة المناقشين فيما يعرضه الأبناء أمامهم، يتوجسون قلقا من أي عثرة يمكن أن تنغص صفو العرض اللائق. فهم على قناعة راسخة بأنها اللحظة التاريخية التي هرموا من أجلها، وهي مفصل القادم من الأيام لأولادهم وبناتهم لا محالة، بدليل حجم الفرح واسع الطيف الذي يعقب إعلان نتيجة النجاح، المختلط بدموع الأمهات العزيزة و"مطبقانيات" الأماني السعيدة.
في تلك اللحظة من العمر، كنت أراهم يتراكضون خارج غرف المناقشات مع أصحابهم وزملائهم، فرحين "بمنجزاتهم التاريخية"، وكلي رغبة في الإمساك بتلابيب عباءاتهم، أرجوهم أن يبقوا أكثر في المكان، ليلتقطوا "أوكسجينه" حتى لو كان يخنقهم في ماضيهم القريب، أثناء المحاضرات أو الامتحانات. كنت أتمنى أن أجلسهم مدة أطول في حيز جغرافي وزماني لن يعودوا إليه إلا وهم كبار عمرا وتجربة ومسؤولية.
 فبعد أن ينفضّ الحفل القصير، ويذهب كل إلى بيته، وتخلو القاعات الصفية من أبطالها الذين كانوا يملأون الساعات ضجيجا ونقاشا وأسئلة، وأكاذيب صغيرة طيلة سنوات الدراسة، وتصبح التجربة مجرد صور محفوظة في ذاكرة الأجهزة الذكية، تبدأ الحقائق الواقعية بالتجلي شيئا فشيئا أمام الصغار الذين يكبرون في ليلة وضحاها، ويبدأون باستكشاف مشاريع الحياة الجدية، منذ اليوم الأول، والتي ستتقهقر أمامها مشاريع تخرجهم الصغيرة، كانت حتى الأمس القريب أكبر المصائب!
سيعرف أطفال الأمس، معنى أن تكون مجردا من المسؤولية، إلا ما يختص بالدراسة والدرجات. ويباشرون بتحسس الواقع تحت أقدامهم وهم يسيرون قدما إلى الحياة، التي في العادة لا تفتح ذراعيها واسعة للمبتدئين في مجتمعات تنخرها البطالة والمحسوبية والعلاقات العامة!
سيقارنون بعتب شديد ما بين دروس الجامعة المعقدة، ومتطلبات السوق الأكثر تعقيدا، ويظنون في قرارات أنفسهم أنهم ضيعوا سنوات جميلة من أعمارهم في تعلم أمور هم ليسوا بحاجة إليها فعلا، دون أن يدركوا أنهم في الأصل لم يعملوا بشهاداتهم غالبا!
كل واحدة أو واحد منهم لا يعرف أنه مشروع تخرج بحد ذاته، ينتظر لجنة تحكيم، بل لجان تحكيم طيلة عمره المقبل، تجمع بصعوبة بالغة ما بين العدالة وطيبة القلب، تحنو على أحلام السنين وتتفهم خطط الأيام القادمة، ويستقر في وجدانها أن الشباب هو الأحق في نيل مطالبه، ضمن معطيات وظروف حياة، تفهم فقط بأن الدنيا لا تؤخذ إلا غلابا!