مشهد الاقتصاد العالمي

في المشهد الاقتصادي العالمي ثلاث محطات لا بدَّ من التوقف عندها. المحطة الأولى، والأكثر تأثيرا، هي محطة العقوبات التجارية بين الصين والولايات المتحدة. اضافة اعلان
وهي محطة كُلفتها الكلية تصل إلى نحو 300 مليار دولار، سيدفعها بالضرورة المستهلك الأميركي قبل الصيني؛ لأنَّ ثلثي المبلغ هو قيمة الجمارك التي بدأت تفرضها الولايات المتحدة على السلع الصينية الاستهلاكية المختلفة.
وبالرغم من الاعتداد بأنَّ الهدف من ذلك حماية المنتج الأميركي، وتشغيل المصانع الأميركية، وبالتالي زيادة معدلات التشغيل في أميركا، إلا أنَّ ذلك صحيح فقط في الأجل القصير، وهو ما ظهر بشكل جلي في الأرقام الأميركية للبطالة والتي تحسَّنت بشكل جوهري، وانخفضت البطالة إلى نحو 3.6 % حسب آخر الإحصاءات، وهي النسبة الأقل منذ العام 1969.
أمّا النتيجية النهائية فهي تعتمد بشكل أساس على أثر العقوبات التجارية في الاستهلاك المحلي في الولايات المتحدة؛ فالسلع الصينية ستبقى أرخص حتى بعد فرض الجمارك. النتيجة من هذه المحطة هي ذهاب منهجية التجارة الحرة العالمية أدراج الرياح. الجميع خاسر في هذه الحرب التجارية التي لا تستند إلى أسس سليمة، ولم تنشأ نتيجة سياسات إغراق الأسواق، أو الغش التجاري. المحطة الثانية تكمن في التهديد الدائم بالعقوبات الاقتصادية على دول مختلفة، والعقوبات الاقتصادية تجعل الدول غير قادرة على تسوية حساباتها التجارية مع العالم بعملة الدولار، وهو العملة الرئيسة في التسويات الدولية.
هذه العقوبات، ناجحة إلى حدٍّ كبير في الأجل القصير والمتوسط. بيد أنها بدأت تفتح الطريق للنظر في إمكانية الاستعاضة عن الدولار لصالح عملات رقمية، أو عملات دولية أخرى. الصين التي تسيطر على الحجم الأكبر من التجارة العالمية قادرة في مرحلة ما أن تفرض سبلاً جديدة للتسويات العالمية، وهي اليوم تمتلك أكبر احتياطي عالمي من الدولار يصل إلى ما يزيد على 3 تريليونات دولار.
وهي أيضاً تمتلك الحجم الأكبر من احتياطي الذهب في العالم، برصيد يعادل ما يفوق 78 مليار دولار تقريباً. المحصلة أن النزوع إلى عقوبات اقتصادية، مع دول عديدة، مثل روسيا، وكوريا الشمالية، والصين، وغيرها من الاقتصادات، وتزامن ذلك مع الحرب التجارية، يعني أنَّ القوى العظمى العالمية ستتغير موازينها، وسبل تعاملاتها التجارية خلال العقدين القادمين.
وسيكون سبل التسويات العالمية الخارجية، إمّا مسارات موازية، أو عملات بديلة، رقمية أو تقليدية، ولكن العالم لن يرهن نفسه لسيطرة أحادية لمدة طويلة. المحطة الأخيرة، هي في الحديث عن أزمة عالمية طاحنة، وحرب عالمية ثالثة، وخاصة بين الصين وأميركا، وبالرغم من أنَّ هناك العديد من الإرهاصات المعززة لاحتمالية حدوث تباطؤ في الدورة الاقتصادية العالمية، واحتمالية حدوث ما يُسمى بالركود التضخمي، إلا أنَّ هناك أيضاً العديد من المعززات بأن تلك التوقعات ليست دقيقة تماماً، ولعلَّ اجتماع مجموعة العشرين في اليابان مؤخراً، وتوقعات النمو الاقتصادي العالمي، كلاهما يشير إلى عدم دقة تلك التوقعات المتشائمة في الأجل القصير على الأقل، وإنها إن حدثت فقد تمس اقتصادات محددة. بيد أنَّ الحرب القادمة ستكون على التقنيات، وعلى السيطرة على سبل الاتصالات والتواصل، وليس حرباً عالمية بالمفهوم التقليدي للحروب والجيوش.
طبول الحرب يقرعها الفوز بعطاءات الجيل الخامس للتكنولوجيا والاتصالات. وغنائمها هي احتلال مواقع محركات البحث في الشبكات العالمية، فإصرار الولايات المتحدة والشركات الأميركية على معاقبة الصين، وشركة هواوي مثلاً، إنما هو تحدٍّ سيقدم أكبر فرصة لتوليد محركات بحث جديدة، وسبل تواصل بديلة، ليس في الصين فحسب، بل ولدى القوى العظمى الأخرى التي لن ترهن نفسها لمزيد من سيطرة قوة احتكارية واحدة، ما يعني إفلاس كبير لاحتكار محركات البحث العالمية التي نعرفها اليوم.
العالم اليوم على بوابة عهد جديد، عهد تتغيَّر فيه معادلات التسويات التجارية العالمية، ومحركات البحث على الشبكلة العالمية للمعلومات، وسيطرة الاقتصادات العالمية. ولعلَّ من الحكمة أن تبدأ الدول المختلفة والمناطق العالمية المختلفة، بما فيها المنطقة العربية، بدراسة خياراتها وتوجهاتها القادمة. دور المتلقي سيجعلها كالعادة الحلقة الأضعف على الساحة، بيد أنَّ دراسة الخيارات ووضع السيناريوهات سيخفِّف من الانكشاف الكامل على المحطات السابقة.