"مش منيح"!

نسأله من باب الاعتياد، ويُفترض أنه للاطمئنان على من يعنينا، باي درجة كانت: "كيفك؟".
لكن غالبا ما تكون إجابتنا جاهزة: "منيح".. "بخير".. "كله كويس..". رغم أننا جميعا نعرف تماماً أن كلا منا يحمل هماً لا يختلف إلا في درجة كبره؛ أي إنه ليس صغيرا في كل الأحوال.اضافة اعلان
فهل إجاباتنا تلك "الإيجابية" تأتي من باب التفاؤل؟ أم أنها تعبير عن قناعتنا بعدم جدية الرغبة في الاطمئنان لدى من طرح السؤال بشأن أحوالنا، وبما لا يشجعنا حتماً على بث الشكوى الصادقة، واللوذ بالتعاطف والتفهم الصادق لدى الآخرين، وإن لم يحملوا لنا علاجا لوجعنا؟
أما الأسوأ بين كل التفسيرات، فأن يكون ردنا تعبيراً عن استسلام لقناعة أننا وحدنا دائما، وبالتالي استسلامنا لغياب الملجأ الذي يمنح ولو قليلاً من السعادة لحياتنا.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تغيرت استخدامات سؤال "كيف حالك؟" فقليلون فقط من يطرحونه بمعناه الحقيقي والحرفي، بعيدا عن التشوهات التي جعلت علاقتنا الإنسانية مشروطة، يحكمها كل شيء ما عدا الصدق! وهكذا، فقد صارت العلاقات الإنسانية الصادقة أقرب إلى الندرة في عصر تحركه الماديات، وتغلفه المصالح والمنافع المتبادلة.
للأسف، يتعامل الناس أحيانا بكل ود واحترام، لدرجة أنك تود لو تجيبهم بحقيقة ما تشعر به عندما يسألونك عن أحوالك. لكنك تكتشف بعد ذلك كم هم مزيفون في وقت تختل فيه المعايير الأخلاقية والاجتماعية، ويحتل الانتهازي مكانا مميزا، لأنه من ينظر للأشياء بمعاييره الخاصة.
ولأجل ذلك تحديداً، فإننا في أوقاتنا هذه نحن أحوج ما نكون إلى السؤال بمعناه الحقيقي وحميميته الخالصة؛ فيكون مفتوحا على كل الإجابات، وليس الروتينية المعلبة منها. ولربما يعيد بصدقه بعضا من روح الحياة التي ذبلت وتيبست مع تصحر المشاعر.
"كيفك؟".. لن تكلف شيئا إن كانت حقا بلا هدف أو منفعة؛ نقولها من أعماق قلوبنا، علّها تمكننا من تقوية أواصر المحبة في علاقاتنا الإنسانية، قبل أن يسودها الظلام، وتصبح جافة وموحشة.
في الماضي كانت القناعة تتسيد نفوس الناس. كان من يوفر قوت يومه يشعر بالرضا والسعادة، وتكون حاله فعلاً عند سؤاله: "منيح.. بخير.. الحمد لله"؛ مقتنع بما لديه، راضيا بحياته وبما أنعم الله عليه. لكن المشكلة أن كثيرين بيننا يفتقدون القناعة، وأهم أن كثيرين يعجزون عن الوفاء بمتطلبات الحياة التي ازدادت كمّاً وصعوبة.
ولذلك، قد نعوض كل ذلك برفع منسوب التواصل الاجتماعي الحقيقي بيننا، والذي يعني مزيدا من الدفء بالمشاعر الصادقة. نحتاج للإحساس بالألفة لنبدد الشعور بالعزلة؛ فنتخلص من علاقاتنا الجافة والصامتة والباردة.
نحتاج سؤال "كيفك؟ "ملؤه الصدق، لتكون الإجابة أيضاً صادقة: "مش منيح!"؛ لا تذمراً ويأساً، بل تواصلاً صادقاً، يفرغ الأحزان والإحباطات لخلق مساحة للأمل والعمل رغم كل شيء.