مصر.. النموذج الكامل

ليست المسألة ما إذا كان سيتم تنفيذ الحكم القضائي "التاريخي"، الصادر يوم الاثنين الماضي، بإعدام 528 من قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبما سيشكل حتماً مذبحة جماعية، بكل ما في الكلمة من معنى؛ لا يغير في حقيقة ذلك الزعم بتوفر غطاء "قانوني!" لها. إذ حتى مع رجحان التوقع بنقض القرار، يظل الثابت أن الضرر قد وقع بمصر كلها بشكل لا رجعة عنه، وعبر واحدة من أهم مؤسساتها، هي السلطة القضائية.اضافة اعلان
فبعيداً عن هوية المتهمين، وعددهم، والجريمة/ الجرائم المسندة إليهم، يبقى الأهم والأبرز في الحكم القضائي السابق هو اتخاذه بعد يومين فقط من المداولات، وبما لا تجرؤ عليه ربما حتى المحاكم الميدانية، زمن الحروب والاضطرابات، والتي تخلو من كل ضمانات المحاكمة العادلة. وإذا كان القضاء المصري قد عرف مذبحة شهيرة بحقه، زمن جمال عبدالناصر، وتحديداً في العام 1954، تلتها محاولات كثيرة لإخضاعه للسلطة التنفيذية في كل مرحلة لاحقة، فإن القرار القضائي الأخير يكاد يكون بحق أقرب إلى أول محاولة انتحار لهذا القضاء على يد أحد أعضائه، عبر الإساءة لمهنيته واستقلاله ونزاهته، وبالتالي الإساءة لمصر كلها.
حكم الإعدام المستعجل على دخول التاريخ باعتباره "الأكبر"، يأتي بعد أيام فقط من إساءة ضخمة أخرى لمصر، وأيضاً على يد واحدة من أهم مؤسساتها؛ هي الجيش. وذلك عبر الإعلان عما سمي "كفتة" معالجة الإيدز! وهو "الاكتشاف" الذي استفز حتى المستشار العلمي للرئيس المصري المؤقت عدلي منصور ذاته، محذراً من أن "الاختراع غير مقنع وليس له أي أساس علمي واضح"، وأنه "يسيء لصورة الدولة، وستكون له نتائج عكسية في البحث العلمي"، وهو ما حصل فعلاً.
ولعل الظاهر تماماً بشأن ما يجمع "السابقتين"؛ القضائية والعلمية، هو الخفة الشديدة، بحيث صارتا عبئاً على من يُفترض أنهما قد قُدمتا دعماً له، تماماً كما شكلتا ابتداء علامتين سوداويتين في سجل المؤسستين الصادرتين عنهما. لكن هذه الخفة في الحقيقة إنما تعبر عما هو أخطر وأعمق، ويتصل بحال الدولة المصرية في المرحلة الراهنة.
فالافتقاد إلى الحد الأدنى من الذكاء في تنفيذ الأهداف، بغض النظر عن مشروعيتها وأخلاقيتها، لا يكاد يترك مجالاً للشك في حال التفكك الذي أصاب أهم مؤسستين من مؤسسات الدولة، بحيث يستطيع أي كان "التصرف على رأسه"، وفق المقولة الشعبية، دونما خشية من حساب أو عقاب أو مراجعة، وأياً كان الضرر الذي يلحق بمصر وصورتها، حاضراً ومستقبلاً. بهذا، يكون مرتكبو "السوابق" هؤلاء، في أحسن أحوالهم وبافتراض أقصى درجات حسن النية لديهم، أقرب إلى الدب الذي قتل صاحبه حماية له. فإن لم يكونوا كذلك، فلا يبقى عندئذ إلا وصفهم بالمتآمرين فعلاً على مصر وصورتها، والساعين حثيثاً إلى خرابها.
بالمحصلة النهائية، فإن مصر اليوم، وقد عاد إلى سدة حكمها كل صناع القرار ما قبل ثورة "25 يناير" 2011، إنما تقدم نموذجاً كاملاً على مدى إصرار أنظمة عربية على الحفاظ على مكاسبها، رغم كل إشارات التحذير، وأياً كان الثمن الذي يجب سداده على حساب الوطن.

rashwanim@