مصر.. كما يرويها هيكل

الصحفي المصري البارز محمد حسنين هيكل - (أرشيفية)
الصحفي المصري البارز محمد حسنين هيكل - (أرشيفية)

كلير تالون - (لوموند) 3/3/2012
ترجمة: مدني قصري

محمد حسنين هيكل، هذا الرجل الذي كثيرا ما يجهله الغرب، يوصف في العالم العربي بأنه واحد من أكثر الكُتّاب شهرة وصيتا. وفي مصر تشهد كتبه رواجا منقطع النظير، وتلقى من الإقبال والنجاح ما لكتب نجيب محفوظ من إقبال ونجاح، وتكاد شهرته تماثل شهرة المطربة الراحلة أم كلثوم.اضافة اعلان
هذا الصحفي اللامع، لا هو كاتب كبير، ولا هو إيديولوجي ذو عبقرية، وإنما هو شخصية ذات طابع غامض ومسار استثنائي، وما يزال وقد بلغ من العمر89 عاما يثير انبهارالمثقفين والسياسيين ورجال الأعمال الذين يتدفقون على صالونه من جميع المشارب لأن هذا الذي يلقب بـ"الأستاذ" يمثل وحده الذاكرة الحية للدولة المصرية منذ عبد الناصر. وأما محفوظاته الشخصية التي تعج بأسرار الدولة، فكثيرا ما تُسيل لعاب الصحفيين والمؤرخين، وكبار المسؤولين في الدولة أيضا.
بأناقته المتواضعة الرزينة، وجسمه الرياضي وتقاسيمه السمراء، يجسّد هذا العجوز المتوهج، ذو "الأنا" الأسطورية، على الرغم من تقدمه في السن، مثالا فريدا للصحفي الذي عرف كيف يجتاز نصف قرن من الدكتاتوريات بفطنة سياسية نادرة. وقد ظل بالفعل الرجل المقرب من دوائر القرار، مع قدرته على حماية نفسه من صواعق الحكام، وقدرته على الاحتفاظ بشرعية شعبية خارقة.
بدأ هيكل حياته المهنية في العام 1942 في معركة العلمين التي خاضتها القوات البريطانية ضد قوات فيلق أفريقيا الألماني، والتي قام بتغطيتها كمراسل صحفي متواضع. وبعد أن أصبح صديقا مقرّبا من جمال عبد الناصر، صار أقرب المستشارين للرئيس الذي ظل يرافقه حتى لحظة وفاته، ويحتفظ من بعده بالكثير من أرشيفاته.
لكن علاقاته مع السلطة ما لبثت أن تأزمت في أعقاب رحيل هذا الأخير العام 1970. بعد أن أصبح مستشارا لأنور السادات، سرعان ما أعرب صراحة عن عدائه للتقارب مع الولايات المتحدة، ولاتفاقيات السلام مع إسرائيل. لكن انتقاداته ما لبثت أن كلفته في نهاية المطاف وظيفته كرئيس تحرير لصحيفة الأهرام، وهي واحدة من أهم الصحف في العالم العربي. وفي العام 1977 وُضع هيكل تحت الإقامة الجبرية قبل أن يسجن في العام 1981.
وعندما أخلى حسني مبارك سبيله عقب اغتيال السادات، اعتقد هيكل أن مبارك هو رجلٌ مباركٌ حقا. لكن الرئيس الجديد ما لبث أن شرع في كبح حرية الصحافة شيئا فشيئا، مما جعل انتقادات هيكل له لاذعة أكثر فأكثر. وقد رفض الصحفي هيكل الانضمام إلى الحزب الواحد الذي يحكم مصر، ولذلك أقيل مرة أخرى من وسائل الإعلام الوطنية. وصار في الفضاءين العام والخاص يصف حسني مبارك بالتعاظم الأرستقراطي، ويسخر من سوء ذوقه في اختيار أصناف السيجار، ومن افتقاره إلى الحس السياسي. إلا أن علاقاته، وشهرته، وثروة ابنيه، ورجال الأعمال أصحاب الملايين الذين يحلّقون في دوائر السلطة، هي التي كثيرا ما كانت تؤمّن حمايته من شر الحاقدين عليه.
وخلال ثلاثين عاما من حكم مبارك، كان هيكل يتنازل تدريجيا عن لعب دور سياسي، من دون أن يقلل ذلك من أهمية الرجل الذي أصبح رمزا حيا للعروبة الناصرية. فعندما قام هيكل بزيارة حسن نصر الله في لبنان قبل قيام الثورة ببضعة أشهر، أقام العالم العربي الدنيا ولم يقعدها. وقد أطلق وزير الخارجية المصرية في وجهه عبارة تأنيب في غضب شديد قائلا: "من أنت، أتظن أنك تمثل الشعب المصري؟"، فرد هيكل عليه قائلا: "ومن أنت، أو تظن أنك أنت من يمثل الشعب المصري؟".
في غضون ذلك استحوذت قناة الجزيرة على "الأستاذ" الممنوع على الهوائيات المصرية، ومنحته منبرا بعنوان "مع هيكل"، الذي أصبح واحدا من حصص التاريخ والسياسة الأكثر شهرة، والأكثر رواجا في العالم العربي.
 قصص هيكل تعطي فكرة ملحوظة عن ينابيع السلطة ومصادرها. وقد فرض بعض السرد في التاريخ الوطني الذي بلور تصورات المصريين. والقصص التي يرويها هيكل مليئة بالمؤامرات، والسماسرة، والانتكاسات، والامبراطوريات، والتحالفات، والخطط التي لم تتحقق.
هذا الخبير في نظريات المؤامرة، كان أيضا مصدرا للاشاعات التي راجت حول اغتيال عبدالناصر على يد السادات بواسطة فنجان من القهوة المسمومة، وهو ما كلفه مواجهة قضية تشهير. وقد اشتهر هيكل أيضا بتأكيده على أن انتصار مصر على إسرائيل في العام 1973 كان سيناريو أخرجه السادات بالتواطؤ مع الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن لا شيء، لا نظريات هيكل الأكثر تناقضا مع العقل، ولا غطرسته الأسطورية، منعته من أن يستخلص من ثورة 25  كانون الثاني (يناير) 2011 فدية مجد كان قد ظل محبطا لوقت طويل. فبعد مرور ستة أيام فقط على بداية الثورة، نشر "الأستاذ" مقالا دعا فيه مبارك إلى أن "يأخذ عصاه" ويرحل. وهكذا هدر ميدان التحرير بغضب جديد شديد، وشعر النظام أن رياحه قد غيرت اتجاهها بما لا تشتهي سفنه.
وبعد مرور ساعتين على سقوط الرئيس، صار هيكل هو من  تتنافس عليه جميع القنوات التلفزيونية، بعد أن ظل محرّما عليها منذ ما يقرب من ثلاثين عاما. وظهر الرجل العجوز مبتهجا على الهواء، وكأنه شبح عائد لطمأنة المشاهدين والصحفيين المتعطشين إلى الحقيقة: "ليس الأمر انقلابا عسكريا". ونسي وقد ملأته حماسة الشباب، نظرياته في المؤامرة قائلا: "هذا حدث لا مثيل له في تاريخ مصر، إنّ ما يحدث ليس خروج رجل، بل هو دخول شعب! "
ولا شك أنه تحدث بلا روية: ففي كتاباته الأخيرة يعرض هيكل بصراحة "الربيع العربي" كثمرة لمؤامرة رباعية: أوروبية أميركية إسرائيلية وإيرانية، ضد الوحدة العربية. وفي ذلك ما يكفي لشد أنفاس مصر لعدة سنوات، على الرغم من تهكمات الثوريين الوليدة.


صدر هذا المقال تحت عنوان:
 L'Egypte racontée par Heikal

[email protected]