مصير الدولة الدينية في العراق

جاءت حوادث تفجيرات يوم الأربعاء الماضي في القرى الايزيدية في أطراف قضاء سنجار في الموصل بشمال العراق، لتثبت بالدليل القاطع المصير الدموي المظلم لتكريس الدولة الدينية في العراق، فالتفجيرات المرعبة التي ذهب ضحيتها المئات من الأبرياء في مشهد دموي خانق، أكدت أن الجميع متهم في لعبة الدم العراقية، فالتواطؤ لا ينال الجماعات الدينية المتشددة التي نفذت هذه الاعتداءات البربرية وحدها، بل المسؤولية تنال بالدرجة الأولى قوات الاحتلال والحكومة التي تتهم بسياسة طائفية صرفة تدير الاحتقان والعنف المتبادل وتجيش النخب المتصارعة على السيادة تحت حراب الاحتلال.

اضافة اعلان

يمكن للحكومة العراقية أن تستمر إلى ما لا نهاية في استنكار هذه الاعتداءات ووصفها بأشنع التعبيرات من دون أن تفعل شيئا أو تعترف بعجزها، كما يمكن أن تبقى الولايات المتحدة تدين فجائع القتل اليومي المجاني الذي يمارس تحت وصايتها باعتبارها دولة الإحتلال من دون أن تفعل هي الأخرى الحد الأدنى من التزاماتها، لكن كل ممارسات قوات الحكومة الحالية تذهب باتجاه تكريس الدولة الدينية القائمة على الطائفية في عناوين العملية السياسية والاستحواذ والإقصاء في الممارسات الفعلية.

الدولة الدينية في مجتمع تعددي مصيرها مظلم ولا مستقبل لها سوى الدمار والانتحار، إن جل ما يمارس تحت مسمى العملية السياسية في العراق منذ أربع سنوات هو حكم سياسيين دينيين ومذهبيين يتنافسون في إرضاء مرجعياتهم الدينية إما بالاستحواذ على السلطة والرضوخ لهيمنة الامتدادات المذهبية في الداخل والخارج، وممارسة الإقصاء والمحو للآخرين، وإما بممارسة العنف أو العزلة من قبل سياسيين دينيين آخرين.

خذ على سبيل المثال، المرجع الديني الكبير السيد السيستاني الذي قيل أنه كان يرفض مبدأ الدولة الدينية، ومارست ماكينة الدعاية الأميركية دوراً كبيراً في إخراجه من عزلته حتى أصبح هو الحاكم الفعلي للعراق تحت الاحتلال في عهدي الحكومة الحالية والسابقة، ويتدخل في الحياة السياسية اليومية كما تدخل في السابق في صياغة الدستور، وهو من يختار المرشحين للمناصب السياسية العليا ويوقف سياسات ويساند أخرى.            

خلال سنوات الاحتلال سادت عملية تعبئة واسعة النطاق صوب العملية السياسية في العراق؛ وعلى أهمية عملية التعبئة من حيث الشكل إلا ان المراجعة العلمية المتأنية لمضامينها تثبت كيف وصلت التعبئة المناهضة للحرب الأهلية والدولة الدينية والعمى المذهبي إلى  النتيجة المناقضة تماما، حدث ذلك حينما تواطأ الجميع ومارسوا على الأرض عكس ما كانت تقول به حملات الترويج والدعاية، بينما بات الناس أكثر قناعة بالعودة الى مرجعياتهم الاجتماعية والدينية الأولية للاحتماء بها.

الكل يتذكر حملة التعبئة الكبرى حول موضوع الدستور العراقي، حتى أصبح الناس حول العراق وربما حتى العراقيون أنفسهم يعتقدون أنّ خلاص العراق ووضع حد للكوارث التي تعصف به مرتبط بحسم موضوع الدستور، بينما رسخت حملة التعبئة الواسعة التي أدارت مناقشة عراقية كبرى، ربما لم يشهدها العراق في تاريخه الحديث والمعاصر، الأسس الطائفية والمذهبية التي كان الجميع يطالب برفضها لأنّ جل الخلاف الذي كان سائداً حول الدستور ليس بكونه كتب تحت الاحتلال، بل بسبب التخوف مما يحمله من أبعاد طائفية وعرقية تهدد بتفتيت الدولة العراقية أو بحرب أهلية، وفي الحقيقة أدار الفرقاء حول الدستور حملات استقطاب طائفية وعرقية واضحة، حيث وظفت الحملة الدعائية الرسمية آنذاك (61) صحيفة و(22) محطة إذاعة وست محطات فضائية، وتم عقد (56) مؤتمراً و(267) ندوة وتم توزيع واستلام حوالي 234 ألف استبانة، وبالنتيجة قاد الدستور إلى هياكل الدولة الدينية التي تحميها المليشيات ولم يتغير شيء جوهري في مصادر القلق والكوارث المتتالية التي يواجهها العراق يومياً.

الأحداث ويوميات الفواجع العراقية تثبت ترسيخ الدولة الدينية التي سوف تقود إلى جهنم دنيوي ومن دون مصير، وستعلم الولايات المتحدة، ولو بعد حين، كم انطبق عليها قول الفيلسوف مونتسكيو بأن الدولة المستبدة تقطع الغصن بأكمله إذا أرادت قطف الثمرة.

[email protected]