مطلوب "للجماعة"

إبراهيم جابر إبراهيم قبل "الربيع العربي" وقبل الديمقراطية التي ما تزال تحت التجربة، كانت هناك قبضة واحدة تتسلّط على المواطن العربي، وبعد الديمقراطية والفضاء الحر صار بإمكان أي مواطن توقيف أي مواطن آخر في الشارع وليّ رقبته! قبل الديمقراطية كانت هناك جهة واحدة تراقبك، وتعاتبك أو تشتمك، ثم تعاقبك، فيقال إن "فلانا" مطلوب عند "الجماعة"، أو "إجاه تلفون"، أو يقول فلان بنفسه متباهياً أو خائفاً: طلبوني أشرب قهوة. وكنّا فوراً نعرف "الجهة" أو "الجماعة" المقصودة، فالكل يعرف أنه ما من جهة تحاسبك أو تراقبك سوى "الجماعة"! الآن، وبعد الربيع والديمقراطية، وانتشار وسائل التواصل، صار من حق أي شخص مراقبتك ومتابعتك ومحاسبتك، وبالتالي فأنت مسؤول عن كلامك أو كتابتك أمام العائلة والعشيرة وزملائك في العمل وجيرانك وأصدقائك الواقعيين وأصدقائك الافتراضيين وأصدقاء أصدقائك الافتراضيين، ومسؤول أمام منظمات المجتمع المدني وأمام "الإخوان المسلمين" وجمعية حماية المستهلك. وحركات التحرر الوطني وجمعية الوقاية من السكّري، ورابطة النقاد، وأمام أنسبائك، وبعد أن كان يحقق معك شخص واحد، وفي أوقات الدوام الرسمي، صرت معرَّضاً للتحقيق أمام كل أفراد المجتمع على مدار ساعات الليل والنهار! المساحة التي انسحب منها "الجماعة"، والتي كان يفترض أن تضاف تلقائياً لمساحة الحرية في حياتك، احتلها تلقائياً وبسرعة ألف "جماعة" جديدة! هؤلاء نصَّبوا أنفسهم مسؤولين عن الأخلاق والقيم والوطنية والدين، يراقبون ما تحبه أو تكرهه، ما تشجعه أو تنتقده، ويتتبعون رأيك في كل شيء من غلاء الخبز إلى غلاء المهور،.. ويسهّل عليهم مراقبتك أنك "اون لاين" على مدار الساعة، فإن لم يجدوك على هذا التطبيق وجدوك حتماً على التطبيق الآخر. فلا يُضيّعون ساعة دون تتبّع منسوب الوطنية والدين والأخلاق في دمك، ليمنحوك "صكوك الغفران" أو ليعلقوا لك المشنقة دون تحقيق! الديكتاتور الشعبي أشدّ قسوة وغلظة، وليست لديه سيرتك الذاتية أو "ملفّك"، فهو سرعان ما يحكم عليك ميدانياً دون محاكمة! ليس لديه وقت للتبين أو للتحقق، ولا تعنيه هذه التفاصيل، فهو "مؤتمن" على أخلاق هذه الأمة وثوابتها، ولن يتهاون معك أبداً إن هدَّدتها بكلمة أو رسمة أو فيلم أو حتى بدردشة قلت فيها رأيك الشخصي جداً! لم يعد المواطن العربي يعاني من "جهة" واحدة رسمية، كانت تخيفه وترعبه، فهو الآن يخاف من ألف جهة، ويحسب حساب هؤلاء الديكتاتوريين الجدد، الذين لا يكلّفون أنفسهم حتى عناء "التحقيق" معك، أو دعوتك على "فنجان قهوة"، فهم لديهم قائمة بالأحكام والعقوبات الجاهزة، ولديهم الخبر اليقين إن كنتَ مؤمناً أو كافراً، مناضلاً أو عميلاً للماسونية العالمية، وهم غالباً قادرون على فهم مصلحتك أكثر منك! هؤلاء الذين لديهم رأيهم القاطع في الطبخ ومواد البناء واعتزال الغناء وفي الدوري الأوروبي ويعرفون بالضبط عدد البنادق في غزة، ولديهم فتاوى جاهزة ومُحكمة في شؤون السينما والأسرى والكوكب الذي سيصطدم بالأرض الأسبوع المقبل عند الساعة السادسة والثلث مساء، ولديهم القائمة الكاملة بأسماء من يخدمون المشروع الصهيوني!

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا 

اضافة اعلان