معترك الإصلاح في المشهد السوري

تبدو محنة المعارضة السورية اليوم على أكثر من صعيد، ولا تمثل الاعتقالات التي شملت عددا من المثقفين والكتاب  الذين وقعوا على إعلان دمشق- بيروت إلا إحدى تجليات الانقضاض الذي قامت به السلطات السورية على حركة المجتمع المدني المعارضة الوليدة والتي حاولت خلال السنوات الأخيرة كسر الجمود السياسي بفعل النظام الشمولي.

اضافة اعلان

تأتي هذه الاعتقالات والضغوط والتهديد للمعارضة في سياق إقليمي عام. فهنالك جملة من المتغيرات التي تدفع ببرنامج الإصلاح العربي إلى الوراء وتعيد الكرة مرة أخرى إلى أيدي الأنظمة لتشد الحبل وتضعف من حركة المعارضة التي نشطت في الأونة الأخيرة في كثير من الدول العربية. فمع تدهور المشهد الأمني العراقي، والعمليات التي وقعت في عمان وشرم الشيخ، وبروز أزمة البرنامج النووي الإيراني، وتراجع "الدعوة الأميركية للإصلاح"، وتدهور الوضع الفلسطيني بعد حصار حكومة حماس والخلافات الكامنة والمشتعلة بين فتح وحماس.. مع كل هذه التطورات يبدو أننا أمام اختلاط جديد في أوراق اللعبة الإقليمية، وغلبة للمناخ الأمني واستعادة لحالة الطوارئ التاريخية، في ظل احتمالات مفتوحة وخطرة. فلم تنتظر السلطات السورية كثيرا لالتقاط الفرصة المناسبة لتصفية الحساب مع حركة المعارضة، التي لم يمض على صعودها سوى سنوات قليلة، ويتمثل مجالها الرئيس في حركة "المنتديات" وبيانات المثقفين وإعلان ربيع دمشق.

في البداية كانت المعارضة منقسمة بين تيار يرى إمكانية التصالح مع العهد الجديد– الرئيس بشار الأسد- مع مظنة وجود نخبة إصلاحية فيه، وبين تيار يرى أنه لا مجال لإصلاح النظام وأن الحل الوحيد يتمثل بتغيير سياسي بنيوي يقوم على بناء أسس جديدة للنظام. مع مرور الوقت تبين للمعارضة أنّ عقد "صفقة" تاريخية مع نخبة إصلاحية في النظام غير ممكن، وأنّ بوادر الانفتاح النسبي - التي ظهرت في الفترة الأولى للعهد الجديد- لم تدم طويلاً، فالتيار المسيطر – في النظام - يخشى من أي عملية انفتاح حقيقية، ويرى أنها ستؤدي مع مرور الوقت إلى انهيار النظام بأسره".

في الشهور الأخيرة تحولت المعركة بين الحكم والمعارضة إلى أشبه باللعبة الصفرية، وتفاقمت الأزمة السياسية مع انشقاق خدام وتحالفه مع الإخوان المسلمين، الأمر الذي أضعف بدوره إعلان دمشق، ونقل الثقل السياسي للمعارضة من الداخل إلى الخارج. وعلى الرغم من عدم قبول إعلان دمشق بالتحالف مع خدام أو الاستعانة بالقوى الخارجية لاسقاط الحكم إلا أنّ شعور الحكم بالخوف وتقلص نطاق الشرعية من الطائفة إلى العائلة، واستشعار أنّ التقرير الأخير في عملية اغتيال الحريري لن يكون في صالح الحكومة جعل من رد النظام على المعارضة عنيفا، يحمل رسائل ومؤشرات متعددة.

الحكم السوري يرى في طهران حليفا إقليميا وثيقا، وينظر إلى أية معركة مع طهران أنها معركة إقليمية، لن يسلم منها رأسه، كما يرى أن تدهور الأوضاع الأمنية في العراق وتأزم وضع الجيش الأميركي يمثل ورقة رابحة في معركته مع الولايات المتحدة وإسرائيل. في الوقت ذاته بات من الواضح من خلال تصريحات الرئيس السوري أنّ الإصلاح السياسي بمبادرة من النظام قد تم تأجيله أو بالأحرى إلغاؤه.

في المقابل؛ تمتلك المعارضة السورية ورقة رابحة تتمثل بالظروف الاقتصادية المتدهورة وحالة الإحباط السياسي العام وتفاقم الأزمة الداخلية في النظام وتآكل مصادر شرعيته السياسية. لكنها تفتقر إلى أوراق من القوة والنفوذ داخل بنية النظام، كما تعاني من النخبوية وعدم القدرة على حشد الشارع وتعبئته سياسيا خلف مطالبها، ويعود ذلك بالدرجة الرئيسة إلى عقود من الحكم الشمولي وغياب تقاليد العمل السياسي العلني الحر، وخشية الناس من التكلفة الأمنية لأي تحرك سياسي شعبي باتجاه الإصلاح، فضلا عن تأثير المشهد العراقي - بما فيه من فوضى واقتتال وانعدام للأمن واعتداء على ابجديات الحياة اليومية- على مدارك الشارع السوري.

أما على صعيد علاقة المعارضة السورية مع القوى السياسية العربية، فتبرز إشكالية "الأولوية"؛ هل تكون للديمقراطية أم لمواجهة المشروع الأميركي. فهنالك اتجاه من  المثقفين والكتاب العرب يرون دعم المعارضة الوطنية السورية لمطالبها المشروعة، واتجاه يرى تأجيل مطالبة النظام بالإصلاح مقابل التصدي للحملة الأميركية.

وللأسف؛ عندما كانت المعارضة الوطنية السورية تخوض حربا مشروعة من أجل الحرية مع السلطات بالدعوة إلى الإصلاح والديمقراطية المشروعة، كان المشهد في دمشق مزدحما بالوفود الشعبية العربية القادمة لتأكيد وقوفها إلى جانب السلطات السورية ضد الحملة الأميركية. ذلك المشهد تجاوز الاف الجثث والمعتقلين والحريات المصادرة وحقوق الإنسان، معتبرا أنّ المعركة الرئيسية هي بين الحكم السوري والولايات المتحدة. شاركت حينها مع عدد من المثقفين والكتاب الأردنيين بإصدار بيان ردا على التوافد العربي إلى دمشق أكدنا - في البيان- رفض الحملة الأميركية وأي اعتداء على سورية، لكن في المقابل طالبنا السلطات السورية بإصلاح سياسي فوري وبإطلاق حرية المعتقلين وسجناء الرأي وتفعيل الحياة السياسية والحريات العامة، وذكرنا في البيان أن المعارضة السورية وطنية تنطلق من رحم المجتمع السوري الأصيل. لكن الرد علينا جاء من المثقفين والكتاب العرب الذين هاجمونا واعتبرونا ذنبا للاستعمار!

ثمة تساؤل مشروع، من وحي الخبرة العراقية؛ هل نتوقع من شعب مصادرة حريته وكرامته ونخوته، ومحارب في حقوقه الأساسية، شعب مرعوب من سيف الأمن المسلط على رقابه أن يقاوم العدوان الخارجي، أو أن مجتمعا بهذا الحال أشبه ببيت العنكبوت يحمل في داخله "القابلية للاستعمار"، على حد تعبير مالك بن نبي. في تقديري يمثل موقف القوى السياسية العربية وجها آخر من وجوه محنة المعارضة الوطنية السورية.

في المحصلة، يبدو أن الإصلاح السياسي على قاعدة مطالب المجتمع المشروعة يتعقد في ظل الظروف والاستحقاقات الإقليمية، ويزداد ارتباطا مع مرور الوقت بالدور الخارجي، الذي سيكون هو العامل الحاسم في مستقبل المعارضة السورية.

[email protected]