معركة الرمادي

أعدّت الحكومة العراقيّة جيّداً لمعركة تحرير الرمادي من "داعش". ثمّر هذا الإعداد، بمساعدةٍ أميركيّة، انتصاراً سيقود حتماً إلى تحرير عاصمة الأنبار من العصابة الإرهابيّة. لكنّها لم تعدّ جيّداً لتنفيذ واجبها إزاء مواطنيها من سكّان المدينة. فجاءت النتيجة معاناةً جديدةً لهم، وهم يبحثون عن المأوى المناسب والخدمات والعيش بكرامةٍ بعد تحرّرهم من قهر "داعش".اضافة اعلان
ذاك فشلٌ يمهّد، كما فعلت سياسات نوري المالكي من قبل، لتكريس بيئةٍ سيستغلّ الظلاميّون بؤسها ويأسها لبناء قاعدة أتباعٍ جديدةٍ من شبابٍ مقهورٍ غاضبٍ، سيرى إلى التحالف مع الشيطان وسيلته الوحيدة لردّ الظلم عن نفسه.
ما شهده العراق من انتشارٍ للعنف ومن بعده الإرهاب حصادُ سنوات الخطيئة التي تبعت إسقاط دكتاتوريّة صدّام. فشل النظام السياسيّ مذذاك، خصوصا في عهد المالكي، في أن يكون ممثِّلاً لعموم شعبه، وصبغت الانتقاميّة والإقصائيّة سياساته. بدّد العراق فسحة الأمل التي وفرّتها بدايته الجديدة، فغرق في دوّامة العنف المذهبي وظلاميّة الإرهاب.
أفاق النظام والمجتمع الدولي إلى كارثية النهج المالكي حين برز "داعش" مسخاً أسوأ من نسخته "القاعديّة" الأولى في بلاد الرافدين. وفرض الضغط الدولي الناتج عن تلك الإفاقة خروج المالكي من رئاسة الحكومة، واستبداله بحيدر العبادي. وتعهّد العبادي تطبيق إصلاحاتٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ شاملةٍ تستهدف ترميم ما دمّر المالكي، وتحقيق المصالحة الوطنيّة ركيزةً محوريّةً لجهود استعادة الأمن.
لكنّ هذه الإصلاحات تلكّأت. وظلّت الحكومة العراقيّة عاجزةً عن إدراك أهميّة بعث رسائل إيجابيّةٍ إلى مواطنيها السُنّة الذين يتحرّرون من سلطة "داعش". تشرّد "النازحون" من مناطق سيطرة الإرهابيّين في مخيّماتٍ تفتقر الحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة، ومُنِع أبناء الأنبار من دخول بغداد.
يتكرّر المشهد اليوم في الرمادي. بدلاً من أن تعدّ الحكومة استقبالاً كريماً وظروف معيشةٍ لائقةٍ لأهلها المحرّرين، تتركهم في مواجهة إذلال العيش في مخيّماتٍ مهينةٍ لا تلبّي أدنى احتياجاتهم المعيشيّة.
لا يحتاج صاحب القرار في العراق أن يمتلك عبقريةً استثنائيةً ليدرك أنّ نصره الأهمّ في الرمادي هو طمأنة أهل الأنبار أنّ وطنهم يحترمهم وهيّأ لهم ما يستحقّون من عنايةٍ.
ولم يكن مطلوباً من الحكومة العراقيّة أن تبني مدناً مثاليةً لنازحي الأنبار في المرحلة الانتقاليّة. بيد أنّ الحدّ الأدنى من واجبها كان تحضير مخيماتٍ انتقاليّةٍ توفّر السقف والغذاء، وتردّ البرد عن نساء الرمادي وأطفالها. كلفة هذه الماديّة أقلّ من ثمن متطلّبات أسبوعٍ من الذخيرة العسكريّة. لكنّ عائدها الوطني أكبر من حصاد سنواتٍ من الحرب العسكريّة خارج إطار استراتيجيةٍ شاملةٍ تعمل بالتوازي على تجذير العدالة والمساواة، وتكرّس الهويّة الوطنيّة الجامعة.
ستكسب الحكومة العراقيّة معركة الرمادي بالقوّة العسكريّة التي أعدّتها لها بدعمٍ من واشنطن. لكنّها ستخسر الحرب ضدّ "داعش" وضدّ تهديد انقسام الوطن إن لم تعالج التشوّهات القاتلة في سياستها إزاء مواطنيها الذين يغرقون في ألم التهميش والإهمال والإقصاء.
انتصر العراق على عصابات "الزرقاوي" سابقاً. إلا أنّ ذاك النصر انتهى سراباً بعد أن جيّره المالكي لخدمة أجندته الإلغائيّة، بدلاً من توظيفه منطلقاً لبناء وطنٍ جامع. تحاشي تكرار هذا المآل ما يزال متاحاً إن استدركت الحكومة قصورها.
فصورةٌ لأطفال الرمادي المحرّرين وهم ينامون في بيوتٍ دافئةٍ، ويتعلّمون في مدارس آمنةٍ، ويلهون في ملاعب فرحٍ أشدّ فاعلية من ألف صاروخٍ موجّه في الحرب الوجوديّة على الإرهاب.