معركة كسر عظم قادمة بين تياري الدولة المدنية والسلطوية

بعد سيل الشعارات الرنّانة وندرة البرامج، وغياب غالبية المرشحين المسيسين من فئة "العيار الثقيل"، يستقبل الشعب وحكومته اليوم نتائج الانتخابات التي أجريت على أسس جديدة يفترض أن توسع قاعدة التمثيل على مستوى المحافظات عبر نظام القوائم.اضافة اعلان
لن يتغير الكثير بين ليلة وضحاها في مشهدنا السياسي - الذي أفقر حدود المسخ منذ 1993 عبر قانون عماده الصوت الواحد، وما صاحبه من نظام الدوائر الفرعية ثم الوهمية. تلك الآليات المقيدة لانتعاش الأحزاب لم تجلب للحياة السياسية سوى "خراب مالطا" وسط اتساع دوائر العزوف عن المشاركة في الاقتراع بسبب فقدان الثقة تدريجيا بالمجالس النيابية وغياب الإرادة السياسية نحو فرز برلمانات مستقلة وقوية.
لماذا؟
لأن التغيير يتطلب وقتا وصبرا وبرامج تتصل بتحديات المملكة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ وهي في صلب هموم الناخبين المعيشية.
وثمّة عوامل موضوعية متداخلة تقف ضد التغيير؛ التيار المحافظ، خواء الأحزاب السياسية باستثناء التيار الإسلامي وقواعده، غياب ثقافة المحاسبة ومفهوم الدولة المدنية الديمقراطية.
في حال سارت الرياح على هوى أشرعة سفن المترشحين ومناصريهم، سيدخل مجلس النواب بين 25 إلى 30 نائبا من التيار الإسلامي بتلاوينه المختلفة، إلى جانب عدد قليل من بقايا اليسار والقوميين، مقابل غالبية حجزت تذكرتها بالاتكاء على تقاليد اجتماعية وسياسية وثقافية محافظة وسلطوية تلج المجلس على صهوة العشائرية. العديد منهم وظّف المال السياسي "الأبيض والأسود" لحماية مصالحهم وتثبيت مكاسبهم عبر استغلال عوز الناس وحاجتهم.
وسط هذه الغيوم الملبدة، يتوقع أن تلمع نجوم تنويرية، سمعناها للمرة الأولى خلال موسم الحملات الانتخابية. هذه الأصوات تتحدّى بلا خوف أو تردد الثقافة السياسية السائدة والقيم المجتمعية البالية، وتطالب بدولة مدنية ديمقراطية عمادها مواطنة متساوية للجميع؛ رجالا ونساء مسلمين ومسيحيين دون الالتفات للمنابت والأصول.
وهي تمنح بعض المشكّكين نفحة أمل في انطلاق رحلة الألف ميل، التي تبدأ عادة بخطوة واضحة وصوت لا يخاف أو يخجل من طرح جديد يخالف الوضع السائد. وقد  تتبلور بسرعة هذه الأفكار – الساكنة أو المحجوبة سابقا- لتشكّل نواة تيار فكري على أمل أن يتحول الى حزب لاحقا.
مع أن هذه الأصوات قليلة مقارنة مع صانعي الضجيج الانتخابي، فإنها صدحت عاليا وأحدثت ضجة سياسية في أوساط الناخبين المحبطين في الدائرة الثالثة (عمان). ولم تسمح لأحد بإسكاتها رغم حملات التخوين والشيطنة والترهيب الفكري التي طالتها من أصحاب أصوات عالية تلعب على الغرائز الدينية والقيم الاجتماعية، عبر تصوير طروحاتهم على أنها تجديف وكفر.
أصوات نسمعها لأول مرة تتحدّى الانقسام الحاصل في المجتمع بين أنصار الدولة المدنية الديمقراطية، التي تفرق بين الحياة الشخصية والعامة، مقابل السلطوية السياسية؛ وهي امتداد السلطوية الدينية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
في الأنظمة السلطوية لا مكان للتعددية بأشكالها ولا مجال لسماع آراء ومعتقدات تخالف ما يعتقد أنه رأي الأغلبية أو تفسيرات رجال، بعضهم أشباه أميين يختبئون خلف عباءات الدين الحنيف لخدمة مقاربات تحاكي فكر داعش أو تستند لأقاويل اخترعوها ليضحكوا بها على بعض الأردنيين، ممن لم يتعودوا على نقد ما يشاع/ ينشر/ يبث.
أصوات غير مألوفة تحدثت بصراحة عن خصوصية علاقة العبد بربه، وكونه صاحب الحق في تحديدها بدلا من فرض قواعدها عليه/ عليها من حيث الالتزام بشكل خاص أو مظهر محدد أو بمعتقد واحد في زمن الإقصاء المتنامي، باتت فيه تعزية المسلم للمسيحي تتطلب إصدار فتوى، وكذلك صدور قرارات وزارية لتحديد الأقارب ممن تشملهم الجلوات العشائرية. فالدين لله والوطن للجميع، بحسب رأيهم.
الأنكى أن أنصار التيار الآخر باتوا يجاهرون بتحريم مشاركة المرأة في سوق العمل جنبا إلى جنب مع الرجل وانتقاد المهرجانات الغنائية باعتبارها فضاءات للكفر والخلاعة ونشر الرذيلة.
مقابل هذه الردّة، جاهر شباب وكهول، رجال ونساء بعشقهم للموسيقى والرسم والفن والمسرح وثقافة الحياة، بما فيها من رقي، رغم حجبها عن طلاب وطالبات المدارس الحكومية. وفوق ذلك، يطلّ عليهم مشروع نائب ليسخر من الفنون والفنانين بوصفهم "رقّاصين".
بعض الأصوات الحداثية الجريئة سيصل إلى القبة. وسيناضل باتجاه تكريس مفاهيم جديدة في قاموسنا السياسي المحافظ، عماده الدولة المدنية الديمقراطية بنسائها ورجالها من مختلف الاتجاهات الدينية والفكرية، مع ضمان حقوقهم في حرية الرأي والتعبير والمعتقد في القرن الحادي والعشرين. هذا التغيير – رغم بطئه- يوفّر شحنة أمل لفئة واسعة في النخب المتقاعسة عن المشاركة في الحياة العامة وأبناء وبنات الطبقة الوسطى – أساس تقدم المجتمع أو تخلفه. فسيادة القانون التي يطالب بها مواطنو ومواطنات الدولة المدنية تظل المظلة الرئيسية للجميع. وهذا ليس نوعا من الردّة، ذلك أن أحزابا إسلامية وازنة في تونس والمغرب وتركيا تكرس علمانية الدولة.
ندرك أنه ليس بالإمكان تحقيق هذه الشعارات الواقعية والواضحة برمشة عين. نواب الدولة المدنية الديمقراطية سيواجهون حربا دعائية وهرطقات سياسية شعواء من الطرف الآخر، الذي لم يتعود على مقارعة فكره المتحجر بفكر ديناميكي حر قائم على المنطق والحرية والعدالة والمواطنة والأمان للجميع.
لن يصمت الساعون وراء ترسيخ دعائم الدولة المدنية تحت القبة. بل سيتحدثون باسم أنصار تيار مدني لم يعد يرضى بقواعد لعبة فرضت عليهم لعقود. لم تعد هذه الكتلة ساكنة أو تعتمد الأسس العشائرية للوصول إلى المقاعد النيابية. بل بدأت بتنظيم نفسها على أسس فكرية ومقاصد مشتركة.
تيار جديد يسمع صوته للمرة الأولى ويثبت وضوح موقفه، ما يشكّل بداية معركة مكاسرة إرادات مع تيار الدولة السلطوية التي لا تتسع إلا لشكل ومضمون واحد. أنصار هذا التيار مصممون على إسماع صوتهم وصولا إلى كسر ثنائية السلطة أو الإسلام السياسي المهيمنة منذ عقود، بعد تحطيم أسس الدولة المدنية.
الأمل في انضمام المزيد من الشريحة الصامتة – أو ما يطلق عليها (حزب الكنبة) في مصر- لإسنادهم في المعركة القادمة أمام نواب غالبيتهم من فئة المستقلين دغدغت العاطفة الدينية ووظفت الرموز الدينية في معاركهم الانتخابية. والملفت أن توظيف الدين طغى على شعارات العديد من المستقلين، في وقت تراجع حزب جبهة العمل الإسلامي - الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين- عن شعاره التقليدي "الإسلام هو الحل"، واستعاض عن أناشيده الدينية بأغان وطنية في مسعى للظهور بمظهر الحزب السياسي المفتوح للجميع؛ من شتّى المنابت والأصول والأديان.
نعم، معركة مكاسرة الإرادات قادمة. فاستعدوا لتسيروا "معا" لتحديد شكل الأردن الذي نريد ونستحق، بينما تدفع الحكومة ثمن الأخطاء التي ارتكبتها بحق المجالس المتعاقبة والإصلاحات السياسية الشكلية، التي ظلّت ديكورا على السطح.