معقول؟!

مفزعة ومحبطة العقبات المزروعة في وجه أساتذة إعلام عرب، يحاولون تحسين الوضع القائم في كليات متكلسة، عبر إدخال مساقات جديدة؛ مثل صحافة الاستقصاء، أو مناهج تغذي متطلبات صناعة الإعلام الحديث في عصر الثورة الرقمية.اضافة اعلان
تلكم كانت خلاصة النقاشات التي سادت أجواء ورشتي تدريب عُقدتا في عمان خلال الأيام الماضية، بمشاركة 30 أستاذا/ة جامعي/ة يخوضون تجربة جديدة نسبيا في تدريس التحقيق الاستقصائي ضمن بكالوريوس الإعلام في الأردن، وسورية، ولبنان، واليمن، وتونس، والعراق، وفلسطين، ومصر.
لكن رغم الصعوبات التي ما انفكوا يواجهونها من كل حدب وصوب، فإنهم مصرون على استكمال ما بدأوه بطريقة منهجية قبل أعوام، من وحي قناعتهم بأن هذا الضرب من العمل الصحفي يبقى الأنبل لجهة تحقيق دور "السلطة الرابعة"؛ أحد مداميك بناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات المستقلة.
فالتغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها، وإنما عبر مراكمة الإنجازات والتعلم من الأخطاء، خصوصا هذه الأيام؛ إذ تخلط صناعة الإعلام خارج أسوار الجامعات، في كثير من الحالات، الرأي بالحقائق، وتلوث عقول الناس. كما يحجب تحالف السلطة ورأس المال المعلومات وسط تزوير الوقائع، بخلاف صحافة الاستقصاء التي تسرد القصة كما هي، وليس كما يريد مسؤولون رسمها.
هذه الصحافة المستندة إلى نبش الحقائق وتوثيقها، ثم مواجهة المتسبب، تسهم في الإصلاح المنشود، عبر تقديم حلول بعد دق ناقوس الخطر والإشارة إلى التحديات.
هي طريق التميز والإبداع، لكنها محفوفه بالمخاطر.
قصص مضحكة ومبكية في آن شاركنا بها أساتذة جامعات يجاهدون لإقناع إداراتهم البيروقراطية بإدخال مساق "الاستقصاء" في جامعات عامة وخاصة، بموازاة مساق التقرير الخبري وليس في سياقه. المشكلة أن هذه العقبات تنسحب على الدول السبع، حيث تتراجع الحريات يوما بعد يوم في منطقة ملتهبة سياسيا، ومشحونة عرقيا وطائفيا، في غياب نماذج لصحفيين استقصائيين عرب بما يشّكل قدوة للقادمين الجدد من الطلبة والصحفيين.
أول من يقف في وجه التطوير، إدارات جامعات تواصل تدريس مناهج عفا عليها الزمن، عبر أساليب نظرية خالية تقريبا من الشق العملي، وتخدم مخرجات إعلام "البروباغاندا" لترويج خطاب أحادي يسهم في تخدير عقول الشعوب لخدمة السلطة. هذه الطرق "البدائية" تحول دون بناء دول حديثة أو تنمية مهارات العمل الإعلامي في الألفية الثالثة.
مثلا، طالبة حاولت كشف ظاهرة "التحرش الجنسي" في جامعتها، فسارعت الإدارة إلى تقريع المدرس والطالبة، وإجهاض البحث في قضية صوروها وكأنها فضيحة قد تمس سمعة "هذا الصرح". وهُدّد الأستاذ بالفصل لو أعاد الكرّة. ثم لملمت القصة كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، فيما التحرش ما يزال سيد الموقف هناك.
بالطبع، لن ندخل في أوضاع غالبية الجامعات المصرية هذه الأيام بعد "عسكرتها"؛ بدءا بتعيين "الموالين" في المراكز الحساسة، وانتهاء بالتدخل فيما يفعله الطلبة ويجهرون به داخل المحاضرات وخارجها منذ صيف 2013. مثلا، طالبة كانت على وشك الاعتقال لأنها كانت تصور مشاهد عند أبواب الجامعة لمشروع تخرج من دون "إذن رسمي". في المقابل، في لبنان، تلقت طالبة شكرا من الإدارة لأن تحقيقها، الذي نشر في صحيفة الجامعة، أسهم في تحسين نظافة الحمامات، بعد أن وثّقت ضعف معايير مراقبة أداء عمال التنظيف وثغرات في آلية طرح العطاءات.
في فلسطين، لجأ عميد كلية إلى شركة خاصة بحثا عن تمويل لمساعدة طالبة على إجراء فحوص تكشف نوعية مثبطات تضاف إلى مادة الحمص لتبييضها على حساب صحة المستهلك. وقد اضطر العميد إلى هذا الخيار لأن إدارة الكلية لم تستطع توفير 200 دولار أميركي لإنجاز التحقيق. وفي جامعة أخرى، أنتج طلبة 38 تحقيقا ساهمت في التغيير نحو الأفضل -بنسبة 85 %- في تلك المجتمعات، بحسب دراسة رصدت مرحلة ما بعد نشر التحقيقات.
وتتحطم محاولات التغيير في غمرة الشد والجذب الدائر في غالبية الدول العربية بين دعاة الحفاظ على الأمر الواقع عبر تكميم الأفواه وإغلاق العقول، وبين من ينشدون الإصلاح التدريجي بخطوات محسوبة. ولا يختلف اثنان على أن أجندات التعليم، حال ملف الإعلام، تتقرر من الجهة التي تدفع المعاشات: الحكومة أو مستثمرون هدفهم الأول تحقيق الربح السريع، وليس الصدام مع السلطة أو إدخال منهاج يعلي ثقافة المساءلة.
من التحديات الأخرى التي تعرقل حفز ثقافة الاستقصاء في غالبية غرف التدريس والتحرير في العالم العربي، غياب التمويل، وضيق وقت فصول التدريس، وعدم إدراك بعضهم لأهمية إدخال هذا المساق ضمن المقررات الدراسية، واكتظاظ الصفوف. أضف إلى ذلك صعوبة توفير منصات نشر/ بث مستقلة في ظل الرقابة الذاتية، المسبقة واللاحقة؛ وضرورة الحصول على أذونات رسمية لإجراء مقابلات. وهو التحدي ذاته الذي يواجه الصحفي العامل غير المنضوي في نقابات الصحفيين. ثم يأتي تحدي اللغة وانحسار شغف القراءة، في ظل ثقافة جديدة تعتمد على المؤثرات البصرية. غالبية طلبة الجامعات العامة لا يتكلمون اللغة الإنجليزية، مع أن لغّات المعرفة والحوسبة أجنبية. ثم تأتي عقبات أخرى مثل غياب/ تدني معايير قبول الطلبة في كليات الإعلام واعتماد الأساتذة، وهي الكليات التي تفرز إحدى أهم المهن لجهة تأثيرها على تشكيل الرأي العام.
غالبية الجامعات العربية تركّز على الجانب الأكاديمي لدى استقطاب أساتذة، من دون الالتفات إلى تراكم خبراتهم العلمية، بينما لا تخضع غالبية الطلبة لامتحان تقييم/ قبول لكشف المواهب والمستوى الثقافي واللغوي.
إذن، هناك فجوة أدوات تدريب ومهارات مطلوبة لتغذية الصحافة الاستقصائية. والكل "يطبطب" على الكل.
ثم تتدخل عوامل أخرى لتحبط طلبة الإعلام ممن ينشد التقصي وسط مجتمعات ما تزال غير قادرة على التفاعل مع نتائج التحقيقات الاستقصائية، أو أنها على قناعة بأن الأمور لن تتغير بسبب غياب ثقافة المحاسبة.
إذن، هؤلاء الأساتذة المكبلون بالبيروقراطية وسيف السلطة ودكتاتورية الشارع، يظلّون أسرى سياق محلي مثقل بتحديات سياسية واجتماعية وثقافية تخدم أجندات الحكومات ورأس المال. حالهم حال الصحفيين المخضرمين أو المبتدئين أو الطلبة المتحفزين لإحداث تغييرات إيجابية في مجتمعاتهم.
يفاقم ذلك الردّة في ملف الحريات السياسية والإعلامية عقب ثورات 2011، وإعادة انتاج استبداد الحكومات تحت شعار حماية الأمن الوطني في ظل تراجع الخدمات الأساسية؛ الصحة والتعليم مع تردّي الأوضاع الاقتصادية.
قد تنفع هذه السياسات لفترة من الوقت في التحكم بالمشهد المحلي واللعب على وتر تخويف العامة من مآلات التغيير؛ مستحضرة نماذج انجراف ليبيا وسورية واليمن صوب ثقب أسود. لكن أسلوب "الطبطبة" لن يدوم طويلا، وقد تغلق الدائرة مجددا على فوضى أسوأ من سابقاتها. فالتحديات التي تواجه غالبية المجتمعات العربية لم تتغير؛ بطالة، فقر، فساد، محسوبية، هدر كرامة، إخفاق العدالة القضائية، وحق الرأي والتعبير.
لكن قلّة هي التي تصنع التغيير. وفي هذه الحال، هم ثلة أكاديميين مستقلين وصحفيين متميزين لم يرفعوا الراية البيضاء.
كوكبة ترفض الرضوخ لهذه الضغوط والسير في موكب المسؤول ضمن قطيع لا يتوانى عن "بهدلة" كل من يتحدى الرواية الرسمية على أساس أنه عميل أو مخبر،  شيطان أو خائن.
التغيير صوب الأفضل هو سنة الحياة، لكنه يتطلب وقتا وتضحية. وها هم يتسللون عبر الثغرات الممكنة لتوسيع الهوامش ومراكمة الخبرات. وتظل الجامعات الفضاء الأوسع لنشر ثقافة الاستقصاء، بما يغذّي المهارات المطلوبة لصفوة الصحفيين نوعا وليس كما. فصحافة الاستقصاء باتت حركة عالمية جارفة عابرة للحدود، لن يستطيع أحد إيقافها.