معنى النهضة

قد لا تتاح الفرصة لجيلنا أن يستعيد ذاكرته التاريخية مرة أخرى نحو حركة النهضة العربية الحديثة، مثلما هي الحال اليوم في ذكرى مئوية الثورة العربية. إن رمزية استعادة الذكريات التاريخية لا تستقيم من دون وجود معادل موضوعي في الواقع، وهذا المعنى الحقيقي للنهضة؛ بكل ما يحمله المفهوم من دلالات ومن ثقل تاريخي وبريق سياسي معاصر.اضافة اعلان
تغيرت الكثير من الأحوال والأشياء حولنا، وتبدلت الكثير من القناعات، وصدقت قناعات أخرى، وما يزال خطابنا السياسي والإعلامي الموجه للنخب والمجتمعات العربية خجولا ومترددا، تحديدا فيما يتعلق بالإرث السياسي. لقد أضاع الأردن فرصا كبيرة للانتفاع من الإرث السياسي لحركة النهضة العربية، سواء في بناء الدولة المعاصرة، أو في الدور الإقليمي؛ ليس فقط السياسي، بل والثقافي، وفي الدبلوماسية الشعبية. وهو ما يمكن أن يشكل جدول أعمال وطنيا جديدا، سياسيا وثقافيا، في دعم أنموذج للتحول الديمقراطي والإصلاح السياسي والثقافي الذي يأخذ بالتدرج ويستند إلى الحكمة؛ وفي بناء مؤسسة إسلامية مرجعية معتدلة، معاصرة وجامعة، تضفي روحا جديدة على علاقة العرب بالإسلام.
المعنى الحقيقي المعاصر لتجديد النهضة، هو في استعادة جذور حركة التنوير العربي التي بدأت في القرن التاسع عشر، ووصلت ذروتها في توافق المفكرين والتنويريين العرب في دمشق على التخلص من الهيمنة التركية. ثم تحول البرنامج الفكري إلى حركة على الأرض، حينما التقط الشريف الحسين بن علي وفيصل بن الحسين إرادة النخب العربية في التخلص من الكابوس الطوراني وبناء الدولة والحياة العربيتين الجديدتين. صحيح أن مشروع الثورة العربية انتصر عسكريا؛ فاستطاع العرب تخليص بلادهم من الأتراك، لكنه هُزم سياسيا -كما هو معروف- نتيجة الخداع السياسي الغربي. ما يعني أن القيمة الفعلية لاستذكار هذا المشروع تبدو في تناوله جملة واحدة؛ بدءا من حركة التنوير العربي الأولى في دمشق والقاهرة وبيروت وصولا إلى مكة. وهو ما نحتاج إلى استعادته؛ أي استئناف البدء.
وسط حالة اليأس التي تعيشها المجتمعات العربية، تحتاج هذه المجتمعات أن تسمع كلاما جديدا عن المستقبل. ووسط هذا الخراب وحالة الشك والريبة، هي بحاجة إلى روح جديدة وخطاب سياسي وثقافي مختلف. وهذه فرصتنا التي يبدو أننا لم نحسن استثمارها. فبمراجعة سريعة للطريقة التي قدمنا بها هذه المناسبة، نجد أن الدولة لم تخرج من الدائرة التقليدية؛ أي مشروع الدفاع، ولم ننتقل إلى البناء والاستئناف.
الخطاب السياسي والثقافي في ذكرى المئوية لم يخرج عن فكرة الدفاع، بل أضفنا إليه أبعادا جديدة هذا العام، وأضفينا المزيد من الاتهامية على التاريخ، وانغمسنا في حالة الردة التي تعيشها المجتمعات العربية، والتي جعلتها في أبعد لحظة عن حركة التنوير التي بنت الثورة العربية الكبرى خطابها وأفعالها على مبادئها؛ أي التطلع لدولة دستورية تحترم حقوق الإنسان. ولكي نبتعد عن الوصف العام، فقد ارتكز خطابنا خلال الأشهر الماضية على فكرتين: واحدة تقليدية، تخاطب أطروحة استمرارية الشرعية. وأخرى، الدفاع عن الثورة بأنها لم تهدم الخلافة الإسلامية ولم تأت مناوئة لها؛ إذ لاحظنا كيف انشغل الخطاب الإعلامي والثقافي بالتبرير والدفاع عن الفكرتين.
مصدر تواضع الفكرة الأولى أن الدولة الأردنية التي اقترب عمرها من القرن، ونظامها السياسي هو الأكثر استقرارا في المنطقة والأكثر قدرة على التكيف والبناء، لا تحتاج هذا الخطاب. وكان من المفترض أن نسمع كلاما جديدا يحتاجه الأردن والعرب في استئناف النهضة في هذه اللحظات التاريخية الحرجة. أما السؤال الآخر حول فكرة الدفاع عن الخلافة، فلماذا لم يطرح هذا الموضوع بهذه القوة في السابق؟ وما حجم التوظيف السياسي لهذه الفكرة من قبل الأنظمة الإقليمية المنغمسة في صناعة حالة الردة التي نعيشها؟ والأهم من ذلك، هل نحن اليوم بحاجة للدفاع عن فكرة الخلافة الإسلامية التي كانت ضرورة في زمانها وتجاوزها التاريخ في عهد الدولة العثمانية ذاتها، وجاءت الثورة وحركة النهضة لكي تتجاوزها بالفعل؟
نحن لسنا بحاجة لإرضاء أنصار الردة. علينا أن لا نخجل من تاريخنا ومن فهمنا للتقدم بالإسلام، لا الردة تحت حجة الدفاع عن الخلافة.